مرة بعد أخرى تعود مفاوضات وقف إطلاق النار فى غزة إلى نقطة الصفر، كأننا أمام عرض ارتجالى بلا نص معروف، أو أفق منظور.
بتعبير الدبلوماسى المصرى العتيد الدكتور «محمود فوزى»: «أرى أمامى مسرحة بلا مسرح، أصوات وأضواء وحركة ممثلين دون أن يكون هناك نص يضبط الحركة، أو بوصلة تقول لنا ماذا يحدث؟.. ثم ماذا بعد؟».
كان ذلك توصيفا ساخرا من موقعه نائبا لرئيس الجمهورية عندما بدأت ما أطلق عليها «عملية السلام» إثر حرب أكتوبر (1973) - حسبما روى لى الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
الأجواء تتكرر على نحو هزلى هذه المرة.
الفارق بين الحالتين هو نفسه الفارق بين «هنرى كيسنجر» و«أنتونى بلينكن».
كلما بدا أن هناك تقدما بالمفاوضات يضع حدا للمأساة الإنسانية المروعة فى غزة تتبدى أسباب وذرائع جديدة لإفشالها جولة بعد أخرى.
فى كل مرة تنسب الإدارة الأمريكية مسئولية الإفشال إلى الجانب الفلسطينى وتعفى رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» من أية مسئولية رغم مواقفه المعلنة، التى تناهض التوصل إلى أى اتفاق.
حسب «بلينكن» هناك خطة جديدة لإنهاء الحرب بصفقة تبادل للأسرى والرهائن تحظى (90%) من نصوصها بالتوافق عليها!
قبل أن يردف بأن هناك نقطتين جوهريتين معلقتين: محور فيلادليفيا والأسرى المشمولين بالصفقة حتى يكون بوسع إسرائيل ترتيب أولوية الإفراج عن رهائنها وأسراها والاعتراض بنفس الوقت على أى اسم فى قوائم الإفراج الفلسطينية.
على مدى جولات تفاوض متعاقبة لم يتطرق «نتنياهو» إلى محور فيلادليفيا بطلب السيطرة العسكرية الإسرائيلية عليه بذريعة منع تهريب السلاح من سيناء إلى غزة.
لماذا الآن؟
هذا سؤال ضرورى.
إفشال المفاوضات داع أول.
غياب الردع داع ثان.
ما يحدث تجاوز بحق مصر وأمنها القومى لا يمكن تقبله، أو الصمت عليه.
إنه خرق صريح ومباشر لاتفاقية «كامب ديفيد» وبروتوكولاتها الأمنية، التى تمنع التمركز العسكرى فى ذلك المحور دون ترتيبات مسبقة، أو موافقة عليه من الطرف الآخر.
بقدر مماثل بدا الاحتلال الإسرائيلى لمعبر رفح البرى من الناحية الفلسطينية خرقا لاتفاقيات وتفاهمات دولية واعتداء سافرا على اتفاقيتين دوليتين، رغم أية تحفظات جوهرية عليهما: «كامب ديفيد» و«أوسلو».
المعنى السياسى المباشر أن مصر لم تعد وسيطا فى المفاوضات.
إنها طرف مباشر وأمنها القومى على المحك.
فى مؤتمرين صحفيين متتاليين، أولهما بالعبرية والآخر بالإنجليزية، بدا «نتنياهو» مأزوما بفداحة إثر مقتل (6) من الأسرى الإسرائيليين.
لاحقته اتهامات واسعة حملته مسئولية مقتلهم وجرت تظاهرات غاضبة فى تل أبيب دعت إلى عقد صفقة تبادل للأسرى والرهائن دون إبطاء.
حاول دون جدوى إعادة صياغة أهدافه من الحرب، تقويض قدرات «حماس» أولا، وعودة الرهائن ثانيا، وألا تعود غزة مرة أخرى مصدر تهديد للأمن الإسرائيلى ثالثا.
تخلى واقعيا عن هدف إنهاء "حماس" بعدما ثبت استحالته.
قلص وعوده بإرجاع جميع الرهائن إلى بيوتهم بالضغط العسكرى وحده.. الأمن له الأولوية حتى لو عادوا جميعهم فى توابيت.
ولمح مجددا إلى إعادة احتلال غزة، دون أن يقولها مباشرة خشية رد الفعل الدولى.
لم يجد أمامه للدفاع عن نفسه غير اصطناع تناقض بين عودة الرهائن والأمن الإسرائيلى، والتحرش المتكرر بمصر!
تجاوز كل حد واعتبار، وهو ما يستحق الرد عليه بالأفعال، لا بالأقوال وحدها.
أقل رد ممكن: تعليق اتفاقية «كامب ديفيد» على ما لوحت مصر سابقا.
بقوة الحقائق لا تحتمل إسرائيل ذلك، إذ ينظر لهذه الاتفاقية كأهم حدث فى تاريخ الدولة العبرية بعد تأسيسها، كما قالت وقتها صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية.
ولا تحتمل مصر التجاوز بالإهانة والاستخفاف دون ردع مناسب.
بكل حساب جيواستراتيجى فإن الإدارة الأمريكية ليست بوارد أن تسمح بانهيار جوهرى فى استراتيجيتها بالشرق الأوسط.
لسنا فى موقف ضعف رغم كل الأزمات الداخلية والإقليمية.. ولا إسرائيل المنهكة عسكريا والمأزومة داخليا فى مركز قوة.
لا تقدر إسرائيل على حرب إقليمية إلا إذا حصلت على دعم عسكرى واستراتيجى كامل من الولايات المتحدة.
ولا تحتمل حربا دينية مفتوحة إذا أفضت اقتحامات المسجد الأقصى المتكررة من وزراء فى حكومة «نتنياهو» إلى النيل من سلامته.
هو نفسه كشف منذ شهرين أنه سيعارض أى اتفاق.
كان ذلك قبل طرح ذريعة «محور فيلادليفيا».
حسب مسودة الاتفاق المقترحة تبدت أفكار أمريكية غير مقنعة وغير متماسكة للالتفاف على تلك الذريعة، كالتفرقة بين الأجزاء المكتظة وغير المكتظة بالسكان فى ذلك المحور، أو فكرة إنشاء قوات دولية لا تشارك فيها الولايات المتحدة!!
فى اللحظة الحالية تبدو الإدارة الأمريكية لأسباب انتخابية أكثر حماسا عن أى مرة سابقة للتوصل إلى اتفاق، لكنها لنفس الأسباب تبدو أضعف من أن تمارس ضغوطا حقيقية على إسرائيل للتوصل لصفقة.
تدرك أن «نتنياهو» يحاول شراء وقت حتى نوفمبر المقبل، أملا فى صعود «دونالد ترامب» حليفه التقليدى للبيت الأبيض، لكنها لا تفعل شيئا غير الإلحاح الدعائى على أن الاتفاق وشيك.
الحقائق تعلن عن نفسها والكلام التفاوضى يدور بنفس الدائرة، كأنه مقصود أن يقال إن هناك مفاوضات وهناك أمل فى وقف الحرب وعدم تمددها إلى حرب إقليمية لا تقتضيها المصالح الأمريكية.
لا «نتنياهو» مستعد للمضى فى أى تسوية، إذ إنها تعنى مباشرة خسارة منصبه، ولا المقاومة الفلسطينية مستعدة بنفس الوقت أن تخسر كل شىء، أو أن تضفى شرعية على احتلال غزة مجددا، أو أن يعود «نتنياهو» لمواصلة حرب الإبادة والتجويع بعد أن تكون قد تخلت عن أقوى أوراقها، ورقة الأسرى والرهائن.
ما يحدث بالضبط انفلات قوة تطلب إبادة شعب بأسره فى غزة والضفة الغربية معا، تتجاوز القانون الدولى، تدمر البنى التحتية لجعل الحياة مستحيلة والتهجير القسرى ممكنا.
التصعيد عنوان رئيسى لا يمكن تجاهل تبعاته رغم أجواء المسرحة فى مفاوضات بلا أفق.