خلاف حاد بين البيت الإبيض في واشنطن والمقاطعة في رام الله، فالأخيرة سئمت خداع البيت الأبيض بمن سكنوه في العقود الثلاثة الأخيرة، لأنهم لم يكونوا أكثر من حاملي بريد للسياسات الإسرائيلية، أما في الحرب الأخيرة على غزة فقد كانت الولايات المتحدة شريكاً كاملاً في إهدار دم الشعب الفلسطيني، سواء بالسلاح أو بالغطاء التي منحته ومنع أية محاولة دولية لوقف الحرب، لتسجل انحيازاً كاملاً كشف زيف وساطتها لعقود كانت شديدة الكلفة.
الرسمية الفلسطينية مصابة بالإحباط من السلوك الأميركي الفاقع، الذي ترك لإسرائيل ما يكفي من الصلاحيات لوأد عملية السلام والإستيلاء على الأرض وبناء المستوطنات، حتى في ظل أشد حكومات إسرائيل تطرفاً وكراهية لم تدخر جهداً في دعمها لتأهيل المنطقة للحرب ولقتل الفلسطينيين بهذا الشكل من الإبادة الجماعية.
الخلاف مصدره قناعة أميركية كانت غائبة قبل السابع من أكتوبر، أنه لا يمكن تحقيق الهدوء في المنطقة دون وجود سلطة قوية قادرة، ودون حلٍ سياسي ولامس الأميركان الحديث عن حل الدولتين وليس بالضرورة أن يكونوا صادقين فالتجربة معهم طويلة. ممتاز أن يفهم صانعوا السياسة في واشنطن طبيعة الأشياء، بعد إدراكهم أن إسرائيل أعجز عن حماية نفسها، وأن ترك المنطقة تدار بـ"الفهلوة" الإسرائيلية من تعزيز الانقسام واللعب على تناقضات الفلسطينيين لإبعاد شبح السياسة والحل السياسي أثبت فشله.
السياسة ليست وليدة الحب والكراهية، ولا إبنة الثقة بل أنها تعيش وتزدهر في مناخات عدم الثقة، بقدر ما هي نتاج الحسابات وموازين القوى، التي تلعب الدور الأبرز في فهم تناقضاتها وشقوقها التي يمكن النفاذ منها، الولايات المتحدة شريك بالجريمة ولكنها وحدها القادرة على وقف الحرب وفتح مسار سياسي، وإلا لماذا تستقبل الرئاسة مبعوثيها في هذا الظرف العصيب والدامي رغم المعارضة الشعبية الواسعة؟
السابع من أكتوبر كان أسوأ ما حدث لإسرائيل، ليس من الناحية الأمنية وعمليات القتل بل لناحية تهشيم صورتها كدولة مهيمنة، فقد ضعفت أمام أقرب حلفائها. كان التعبير الأبرز أميركيا عدم قدرتها على حماية نفسها وأثناء ذلك كان يتبدى خلاف ظهر للعلن بين البيت الأبيض وحكومة إسرائيل رغم الدعم اللامحدود حول مستقبل غزة والحكم فيها، هذا الخلاف تمثل برغبة الولايات المتحدة بأن تكون غزة جزءً من مسؤولية السلطة، لكن إسرائيل التي استثمرت سنواتٍ طويلةٍ وجهد أطول لإخراج غزة من غلاف السلطة، وحتى بعد الخطر الشديد الذي ظهر في السابع من أكتوبر لا زالت إسرائيل وتهرباً من السياسة ترفض بشدة عودة السلطة.
لكن الولايات المتحدة ترى السلطة بشكلها الحالي ليست مؤهلة للمسؤولية، بعد أن تراجع حضورها في الضفة الغربية، ليس فقط بفعل الممارسات الإسرائيلية التي أفرغتها من مضمونها، وصادرت دورها الوظيفي، بل أيضاً بفعل أداء داخلي متدني الكفاءة عكس انفضاضاً جماهيرياً عنها.
هناك تقاطع بين مصلحة الشعب الفلسطيني والرغبة الاميركية ورغبة السلطة نفسها بالتمدد لغزة، وفتح مسار سياسي. صحيح أن الولايات المتحدة عليها تجديد وإصلاح سياستها أولاً كما قال الناطق بإسم الرئاسة، ولكن هل ينفي ذلك إصلاحاً كان ولا زال مطلباً فلسطينياً ملحاً؟ ليس حباً بالولايات المتحدة، بل لأنها الوحيدة القادرة على فرض وجود السلطة بغزة بعد ما جرى من إضعاف لإسرائيل، والوحيدة القادرة على فتح نافذة سياسية تهرب منها إسرائيل.
أميركا ليست صديقة ولكنها قادرة، ولقد أعطت السلطة ما يكفي من المبررات للتدخلات الخارجية للمطالبة بالإصلاح، بما فيها محاولات لم الشمل الفلسطيني وإجراء انتخابات وإعادة بناء السلطة، هذا ليس جديد كان مطلبا لدول احتضنت جلسات المصالحة لكنه تحول بعد أكتوبر إلى مطلب أميركي بصيغة مختلفة، لكن السلطة تتحمل مسؤولية كل اتهام لها بالضعف، فلماذا لا يكون نائب للرئيس أصلا؟ ما المانع من حكومة جامعة بصلاحيات وبرلمان فاعل؟ أهل ننتظر الأميركان ليقولوا لنا هذا؟ أم نعاند بإعتبار أن الإصلاح مطلب أميركي وتقتضي الوطنية منعه والوقوف أمامه ورفضه؟