بين المفصولين من الحركة والمفصولين عن الحركة
تتشكل الأحزاب والقوى السياسية وحركات التحرر من أجل تحقيق غايات وأهداف سياسية أو وطنية أو اجتماعية أو اقتصادية بعضها أو كلها مجتمعة، وتنطلق من أساس فكري فلسفي أو أيديولوجي، ما يشكل هويتها السياسية أو الوطنية. فالهوية السياسية هي الإحساس بالذات ضمن جماعة سياسية معينة ترتبط معاً بناظم فكري يعبر عن مبادئ وقيم سياسية واجتماعية، وتسعى نحو غايات وأهداف مشتركة. وتتطور داخلها طريقة للتفكير، توحد صورة وفكرة الجماعة عن نفسها، بما يستجيب إلى ميل عميق لدى أعضاء الجماعة يتصل بتاريخ ويتعلق بأيديولوجيا أو دين أو عرق أو خلفية وطنية أو اجتماعية أو إنسانية. وبالضرورة تجد الهوية السياسية نفسها في سياق دوائر تتشكل من دوائر أوسع تحدد الانتماء الاجتماعي والسياسي في إطار الهوية الوطنية، بين نحن وهم، في إطار من التعددية تنسج العقد الاجتماعي العام، وتجسد الانتماء الوطني. ولا شك أن ظاهرة التنافس بين القوى السياسية على مسألة الحكم هي ظاهرة طبيعية وحيوية، تؤثر على طبيعة الهوية السياسية وتتأثر بها سلبا وايجاباً. ويعتبر معيار نجاح أي حزب أو حركة سياسية في التعبير عن الهوية الواحدة، متعلقا بالمحتوى الفكري والثقافي للحزب، وقدرته على إنتاج حالة توازن في الدوائر الممتدة٠ بين الشعور بالانتماء للحزب والانتماء الاجتماعي والوطني العام. فإذا كان الشعور بالانتماء والعضوية في جماعة ما، أعلى من الشعور بالانتماء في المجموعة الأوسع، ستضعف، من ناحية محتوى الشعور بالهوية الواحدة، ومن ناحية أخرى سيكون من الأصعب معالجة القضايا التي تواجه جميع المكونات الداخلية للمجتمع، وتحدُّ من قدرته على تحقيق الأهداف الوطنية العامة.
ومهما اختلفت المرجعيات الفكرية للأحزاب والقوى السياسية، فإنها تعمل وفق منظومة عمل متكاملة تعتمد على رؤية واضحة ومبادئ وأهداف واستراتيجية وخطط وبرامج محددة وبنية تنظيمية وهيكلية وأنظمة ولوائح داخلية، تحدد المسؤوليات والصلاحيات والمهام وأطر وأدوات الرقابة والمحاسبة الداخلية.
كان لا بد من هذا التقديم الموجز لمسألتي الهوية الوطنية والسياسية ومنظومة العمل التي تحكم أداء القوى السياسية وحركات التحرر، قبل الولوج إلى موضوعة المصالحة الداخلية في حركة فتح، وحتى لا يكون الحوار المتعلق بالمصالحة معزولا عن المسألة الجوهرية المتعلقة بوحدة حركة فتح، على أساس من هويتها الوطنية وجوهر فكرتها ومبادئها وأهدافها، باعتبارها حركة تحرر، وعدم حصر الموضوع بالبعد الشخصي المتعلق بصراعات أو خلافات أو اختلافات بين مراكز قوى أو فئات أو أفراد داخل الحركة. وحتى لا نُتهم بوضع العصي في دواليب المصالحة الداخلية، من المهم أن نشير ابتداء أن ما تسرب عن أنباء حول لقاءات أو مكالمات أو حوارات بين شخصيات قيادية في حركة فتح تتعلق بالمصالحة الداخلية قد بثت مناخاً إيجابياً طيباً، بين أبناء الحركة وبين القوى السياسية بشكل عام، لأن الجميع يدرك أهمية انتظام العقد الداخلي لحركة فتح كشرط مهم في انتظام العقد الوطني العام، وفي مواجهة التحديات في ظل حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، غير أننا مطالبون بالتدقيق في التوقيت والدوافع التي أخذت قيادة الحركة أو الأعضاء الأكثر نزوعا نحو انجاز المصالحة بعد هذه السنوات الطويلة من تجاهلها، وحتى لا تنحصر عملية المصالحة بإعادة تجميع والتقاء بين مصالح أطراف الخلاف سواء على المستوى الشخصي أو في ظلّ مطالب إقليمية أو دولية ذات علاقة بترتيبات سياسية لم تعد سراً ولا تخفى على أحد، وتعيد إنتاج الأزمة السياسية وتحاول الهروب إلى الأمام، وتستخدم النهج نفسه الذي أنتج الأزمة الداخلية في حركة فتح والأزمة الوطنية بشكل عام، وهو منهج شراء الوقت وبيع الوهم، بالاعتماد على وعود أمريكية ثبت ضلالها، وعلى أساس من سياسات التفرد بالقرار والإقصاء والتهميش لأبناء وكوادر حركة فتح.
إن الحديث عن إعادة المفصولين من حركة فتح، وجميعهم بالمناسبة تم فصلهم دون أي مسوغ قانوني ونظامي وفقاً للنظام الداخلي لحركة فتح، وكنتُ نشرت مقالا يهذا الخصوص في حينه. إن الحديث عن إعادة المفصولين سواء بشكل فردي أو جماعي هو تقزيم لحالة الأزمة، حيث أن المفصولين من الحركة ربما عدة مئات بينما المفصولون عن الحركة عشرات عشرات الآلاف، وهم غالبية أبناء الحركة الذين تم اقصاؤهم وتهميشهم وتعطيل مساهمتهم في العمل الحركي، ناهيك عن عشرات عشرات الألاف الذين عزفوا عن العمل الحركي نتيجة شعورهم بالاغتراب بين شعورهم المتعلق بالحركة التي انتموا لها وبين الأداء السياسي والوطني للقيادة، الذي ابتعد عن مبادئ الحركة، وهذا يفسر الاختلال في مضمون الهوية ومفهوم الانتماء السياسي الذي يعبر عن الهوية الوطنية الذي أشرت إليه في مدخل هذا المقال. ومن ناحية أخرى هناك المفصولون عن الحركة في قمة هرمها، ومن موقع التعبير عن هويتها الوطنية ومن موقع العلاقة مع جمهور الحركة وأعضائها، أولئك الذين يصرون على منهج الاستفراد وسياسة التعايش مع الاحتلال، والذين رفعوا من مسألة الحكم على مسألة التحرير، ويصرون على استمرار صيغة التعايش مع العدو الشريك، التي نتجت عن اتفاق أوسلو الذي داسته دبابات الاحتلال. فليس من المعقول أن نُعلن أن دولة الاحتلال تشن على شعبنا حرب إبادة، ونصر من جانب أخر على استمرار العلاقة مع تلك الدولة كما كانت، قبل ذلك وكأن أمراً لم يتغير.
إن المصالحة الداخلية في حركة فتح يجب أن تبدأ أولاً وقبل أي شيء وقبل إعادة المفصولين إلى الحركة والمفصولين عن الحركة، بإعادة الاعتبار إلى هوية حركة فتح كحركة تحرر وطني، وإلى إعادة قواعد وأسس العلاقة بين أفراد الحركة إلى منظومتها الفكرية ومبادئها وأهدافها، ما يشكل الناظم العقائدي " عقيدة الحركة" وإلى منظومتها الداخلية المستندة إلى النظام الداخلي، الذي ينظم العلاقات الداخلية بعيدا عن التفرد بالقرار، ومنهج الاقصاء والتهميش.
إن الاستمرار بالعمل الارتجالي بعيدا عن منظومة عمل متكاملة أو توسيع دائرة التفرد بالقرار، من أجل معالجة أزمة أقطاب في قيادة الحركة، ليس حلاً ولا هو إتمام وإنجاز لعملية مصالحة حقيقية ومستحقة وضرورية، ولن تساهم في الوصول إلى وحدة وطنية شاملة مستحقة وضرورية ايضاً، ولن تمكن من مواجهة التحديات التي تفرضها حرب الإبادة، بل سوف تكون في خدمة التماهي مع السيناريوهات التي تضمنتها الخطة الامريكية لما بعد الحرب، والتي تسعى لجعل المصالحة الداخلية في حركة فتح متطلبا مُسبقا لوضع النظام السياسي الفلسطيني برمته في موقع ذكر النحل، الذي يُلقح صيغة متجددة للحكم تطيح بالمقاومة والنظام السياسي الفلسطيني نفسه لا فتح ستان ولا حماس ستنان، لا سلطة ولا منظمة تحرير، بل صيغة أطلق عليها سلطة متجددة في الخطة الأمريكية نفسها التي أعدت من فريق بقيادة دايتون نصت على أن لا دور للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة في المرحلة الأولى سوى دور استشاري، ولا ضمان في تلك الخطة ولا نص حول أي مرحلة أخرى.
إننا ندعو إلى مصالحة داخلية في حركة فتح ضرورية ومستحقة، مصالحة مع هوية حركة فتح كحركة تحرر وطني، مصالحة تنهي الفصام بين رؤية الحركة ومبادئها وأهدافها وبين سياسة التعايش مع الاحتلال، مصالحة تُعيد المفصوم بالهوية قبل المفصول منها والمفصول عنها.