بقلم: د.عمرو الشوبكي
عدّ كثيرون أن معيار الحكم على أدوات النضال الفلسطيني يكمن أساساً في التمييز بين الكفاح المسلح والنضال المدني، ورغم أهمية هذا المعيار فإن هناك جانباً آخر على قدر ربما أكثر أهمية يتعلق بتفاعل مسيرة النضال الفلسطيني مع منظومتين، إحداهما داخلية تخص الواقع الفلسطيني والعربي، والثانية خارجية تتعلق بالمنظومة الدولية والتعامل مع الدول الكبرى.
والمؤكد أن هناك فارقاً كبيراً بين خبرة منظمة التحرير الفلسطينية في التعامل مع المنظومة الخارجية، وخبرة فصائل المقاومة المسلحة، وعلى رأسها حركة حماس، فالأولى أثرت وتأثرت بالمنظومة الدولية وتفاعلت معها حتى وهي مختلفة مع أقطابها الكبرى (أميركا أساساً)، في حين أن الثانية انكفأت على نفسها ولم تقدم خطاباً يؤثر في الخارج، واعتمدت أساساً على صمودها أمام آلة الحرب الإسرائيلية وعمليات المقاومة المسلحة.
ورغم أن العمليات الفدائية التي نفذتها منظمة التحرير في الماضي صنفها العالم الغربي وإسرائيل إرهابية، فإنها نجحت في أن تحصل على دعم أطراف خارجية مثل الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وقتها، ودعمتها تجارب التحرر الوطني في دول العالم الثالث وتيارات أوروبية يسارية.وقد قدمت منظمة التحرير الفلسطينية للداخل والخارج مشروع الدولة العلمانية الواحدة في فلسطين التاريخية التي يعيش عليها المسلمون والمسيحيون واليهود بدعم من خطاب التحرر الوطني العربي والعالمي، ولم تقل مطلقاً بإلقاء اليهود في البحر، إلا أن هذا المشروع وصف أميركياً بأنه متطرف ومعادٍ لليهود رغم أنه كان طرحاً مدنياً ولم يكن مشروع إقصاء ديني ولا عرقي.
ونتيجة إخفاقات منظومة الداخل العربية والفلسطينية، وخاصة بعد خروج المقاومة من بيروت وزيادة الضغوط الخارجية على المنظمة وبريق الخبرة المصرية التي أثبتت أنه يمكن استعادة الأرض والحقوق بالمسار السلمي حتى لو كان منفرداً، وحتى لو اختلف معه كثيرون وقتها، كل ذلك شجع منظمة التحرير نحو تغيير ميثاقها وإعلان قبولها بحل الدولتين والتنازل عن الحل التاريخي بإقامة دولة علمانية واحدة في فلسطين التاريخية.
لقد دخلت منظمة التحرير الفلسطينية مسار أوسلو المعقد وهي تمتلك مفاوضين أكفاء وقائداً تاريخياً كبيراً، هو ياسر عرفات، وانتفاضة حجارة ألهمت ضمير العالم، ومنظمة لها مقرات في كل الدنيا، وممثلين في العواصم الكبرى مزج معظمهم بين خبرة نضالية وتعليم عال وحضور إعلامي وسياسي متميز.
كل ذلك جعل منظمة التحرير تنجح في أن تقنع وتؤثر في «منظومة الخارج» وجعل العالم وعلى رأسه أميركا يضغط على إسرائيل والمنظمة لقبول حل الدولتين، وتعود الأخيرة إلى غزة والضفة ويتحول كثير من كوادرها إلى «سلطة» تدير الداخل الفلسطيني وتنتقل لها أمراض سلطات كثيرة في العالم العربي فيترهل أداؤها ويظهر الفساد وسوء الإدارة، ثم الانقسام الفلسطيني الذي انتهى بسيطرة حماس على قطاع غزة في 2007 عمقته السياسات الإسرائيلية سواء بحصار غزة وتحويلها لسجن كبير، أو ببناء المستوطنات في الضفة الغربية وعمليات قتل واستهداف النشطاء، سواء كانوا سلميين أم مسلحين.
منظومة الداخل الفلسطيني والعربي شجعت على مسار أوسلو، ومنظومة الخارج الأميركي والغربي رعته ودعمته حتى لو ظلت منحازة لإسرائيل، بل إن هناك تيارات في داخل إسرائيل مثل حركة «السلام الآن» وغيرها دعمت حل الدولتين وطالبت بإنهاء الاحتلال.
وقد تغير الحال عقب انتفاضة الأقصى (2000) وتكريس الانقسام الفلسطيني رغم محاولات مصرية سعودية جزائرية لحله، كما استمر دعم معظم النظم العربية للسلطة الفلسطينية ولمنظمة التحرير، بعدّه الموقف التاريخي للجميع، كما ظلت تيارات الإسلام السياسي تشيد بحركة حماس وعملياتها المسلحة طوال العقدين الماضيين، أما المنظومة الخارجية فقد عدّت ضمناً - رغم الكلام الدبلوماسي المكرر عن حل الدولتين - القضية الفلسطينية دخلت في «براد» التجميد وبقاء الحال على ما هو عليه إلى ما لا نهاية.
وقد تغير الحال عقب عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأعيد طرح سؤال التفاعل مع المنظومة الداخلية والخارجية، خاصة بعد أن وضعت القضية الفلسطينية في الواجهة أمام المنظومتين على السواء.
إن المختلفين مع حماس والرافضين لعملية 7 أكتوبر وقفوا مصدومين من هول ما جرى في غزة من جرائم إبادة إسرائيلية وقتل متعمد للمدنيين والأطفال في مشهد لم تعرفه أشد حروب العالم بربرية وقسوة، وكان التضامن العربي الإسلامي العالمي مع شعب غزة كبير، ولأول مرة نجد هناك ضميراً إنسانياً عالمياً عابراً للحدود والثقافات ويطالب بوقف فوري لإطلاق النار، وجاءت خطوة جنوب أفريقيا لتعزز من دور «منظومة الخارج» في معادلة اتهام إسرائيل ومحاولة ردعها.
ورغم كل التحولات الكبرى في الرأي العام العالمي، فإن واقع فصائل المقاومة وخطابها السياسي يقول إنه لم يستطع أن يتفاعل مع المنظومة الخارجية ولا حتى مع الخطاب الإنساني والقانوني والحقوقي الذي يدعم فلسطين، ولا يمكن القول إن البناء العقائدي والخطاب السياسي لحماس يمكن أن يتقاطعا مع الخطاب المدني والحقوقي الذي قدمه رجال جنوب أفريقيا القانونيين أمام محكمة العدل الدولية.
صحيح أنه لولا مقاومة حماس لما كانت هناك مرافعة جنوب أفريقيا، لكن الأمر المؤكد أنه لا يمكن أن تنتصر المقاومة الفلسطينية إلا إذا استطاعت أن تتواصل وتؤثر كما فعلت كل تجارب التحرر الوطني مع منظومة الخارج، أو على الأقل جوانب مؤثرة فيها، وهو أمر ما زال غائباً ويحتاج لفرز جديد للقيادات الفلسطينية يدمج فيه، جانب من عرب 48، الذين امتلك كثير منهم خطاباً مدنياً إنسانياً، وأيضاً خبرة نضالية في الداخل رغم سياسات القمع والتمييز التي تمارسها الدولة العبرية ضدهم.
عن الشرق الأوسط