يُخشى تحوّل لبنان ضحيّة أخرى للمفهوم الخاطئ للانتصار، وهو مفهوم رائج لدى قسم كبير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ليس مفهوماً إلى الآن كيف يمكن للحزب متابعة حرب يخوضها مع إسرائيل تحت شعار “إسناد غزّة” في حين لم تعد غزّة ذات الـ365 كيلومتراً مربّعاً موجودة؟
يكشف ما حدث أخيراً في لبنان من تطورات في غاية الخطورة، شملت تفجير أجهزة الاتصال التي يحملها أعضاء “الحزب”، أنّ إسرائيل تفرّغت للبنان ولجبهة الجنوب، يحدث ذلك في وقت يبدو الحزب مهتماً بكيفية الربط بين حرب لبنان وحرب غزّة. ماذا يمكن عمله عندما ترفض إيران، التي اتّخذت قرار فتح جبهة جنوب لبنان، أخذ العلم بطيّ صفحة غزّة؟
تشير أرقام صدرت عن الأمم المتحدة أخيراً إلى أنّ إعادة بناء غزّة، التي هجّر الوحش الإسرائيلي مليونين من مواطنيها، تحتاج إلى عشرين عاماً. قبل كلّ شيء، هل يوجد من يريد إعادة بناء غزّة في غياب شروط معيّنة تضمن عدم تدميرها مرّة أخرى؟
يبدو واضحاً أنّ ثمّة حاجة، اليوم قبل الغد، خصوصاً في ضوء ما حصل أخيراً، إلى وقف الحرب التي بادر الحزب إلى شنّها انطلاقاً من الجنوب. كذلك يبدو واضحاً أكثر من أيّ وقت أنّ على كلّ معنيّ بهذه الحرب أخذ العلم بأنّ الوحش الإسرائيلي الذي يرمز إليه شخص اسمه بنيامين نتنياهو لا يريد إنهاء حرب غزّة. كما قرّر التركيز على لبنان. يرفض “بيبي” وقف حرب غزّة على الرغم من أنّ المؤسّسة العسكرية والأمنيّة تعرف تماماً أنّه لم يعد من معنى لهذه الحرب في ضوء حجم الدمار الذي لحق بالقطاع.
يتمثّل التحدّي الكبير الذي يواجه لبنان واللبنانيين في وقف الحرب والتخلّي، قبل فوات الأوان، عن فكرة الانتصار الوهمي. الانتصار الوحيد الذي يمكن أن يتحقّق هو مزيد من السيطرة الإيرانيّة على لبنان من منطلق أنّ الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على إسرائيل.
توجد حاجة إلى شجاعة كبيرة للاعتراف بأنّ فتح جبهة جنوب لبنان، في الثامن من تشرين الأوّل الماضي، كان قراراً خاطئاً، وبأنّ العودة عن الخطأ فضيلة. لا حاجة إلى الذهاب بعيداً في حسابات الربح والخسارة، ولا إلى التساؤل: هل توسّع إسرائيل حربها في لبنان أم لا؟ لا حاجة إلى مثل هذا التساؤل لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أنّ الحرب قائمة وأنّ الهدف الإسرائيلي الواضح يتمثّل في تهجير قسم من أهل الجنوب، من سكّان القرى الحدوديّة، من قراهم. هذا ما يحدث بالفعل. بات هناك اعتراف رسمي لبناني بوجود نحو 150 ألف مواطن لبناني هُجّروا من أرضهم.
حسناً، سيوجد من يردّ على هذا الواقع بأنّ الآلاف من الإسرائيليين لا يستطيعون العودة إلى المستوطنات القريبة من “الخطّ الأزرق” مع لبنان. عاد هؤلاء أم لم يعودوا، يفترض في أن يكون الهمّ اللبناني لبنانياً تفادياً للوصول إلى يوم لا ينفع فيه الندم وتصبح هناك قرى لبنانية لا يصلح العيش فيها، على غرار ما هو حاصل في غزّة. ماذا ينفع غزّة إذا بقيت “حماس” أو لم تبقَ، وإذا بقي يحيى السنوار حيّاً يرزق يتبادل الرسائل مع عبد الملك الحوثي وغير الحوثي الذي قضى على كلّ ما هو حضاري في صنعاء؟
من المفيد العودة قليلاً إلى خلف والاستفادة من تجارب الماضي القريب من أجل إعادة تحديد مفهوم الانتصار. يمكن، في هذا المجال، استعادة التجربة السورية في عام 1967. وقتذاك، نتيجة حرب حزيران التي سمّيت “حرب الأيّام الستّة”، احتلّت إسرائيل الجولان في ظروف ما زال يحيط بها الغموض. مع توقّف المعارك، جمع إبراهيم ماخوس، وكان وزيراً للخارجيّة، كبار الموظّفين في الوزارة ليبلغهم أنّ إسرائيل لم تنتصر في تلك الحرب نظراً إلى أنّ هدفها كان إسقاط “النظام البعثي الوطني التقدّمي” في سوريا. خسرت سوريا الأرض ومن فيها وبقي النظام. هذا ما كان يهمّ ماخوس الذي ما لبث أن لجأ إلى الجزائر ليمضي بقيّة أيام حياته فيها بعد الانقلاب الذي نفّذه حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني من عام 1970… تحت شعار “الحركة التصحيحية”. صحّحت هذه الحركة الكثير، لكنّها لم تصحّح مفهوم الانتصار الوهميّ الذي تحقّق بعد حرب 1967.
حكى لي هذه الرواية عن الاجتماع الذي عقده ماخوس مع كبار موظّفي الوزارة، أحد الذين حضروا الاجتماع، وهو شخص يدعى ناظم قضماني انتقل فوراً إلى باريس. انتقل قضماني، الذي يحترم نفسه ويحترم العقل والمنطق، إلى باريس ليمضي فيها بقيّة عمره بعدما سمع ماخوس يشرح مفهوم الانتصار من وجهة نظر البعث السوري!
لا يزال الجولان محتلّاً إلى يومنا هذا بعدما اعتبر النظام السوري أنّ الجولان المحتلّ مجرّد مبرّر لمتابعة المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية ولمتابعة القمع الذي يتعرّض له الشعب السوري بحجّة “الممانعة” وحماية النظام.
المؤسف أن ليس في لبنان من يستطيع تفادي الكارثة التي تبدو مقبلة على البلد من البوّابة الجنوبيّة؟ لا وجود لمرجعية لبنانية في الوقت الحاضر. هل يجب الرهان على تغيير كبير في إيران… كي يتغيّر شيء ما في لبنان ويعود أهل الجنوب المهجّرون إلى قراهم وأرضهم قبل أن يلحق بهم ما لحق بأهل غزة حيث ليس ما يشير إلى أنّ الحرب ستتوقّف؟
من يربط نفسه بحرب غزة، التي انتهت من دون أن تنتهي، يؤمن بمنطق اللامنطق، أي بمفهوم الانتصار الذي لا علاقة له بأيّ انتصار إلّا بالانتصار على لبنان كما حصل في حرب صيف عام 2006.