لم يشهد التاريخ الحديث ما شهده لبنان وسوريا أمس الثلاثاء من هجوم سيبراني إسرائيلي أوقع آلاف المصابين والضحايا. إنه “إعصار البيجر”. هذه العبارة تختصر ما حصل لمنظومة الاتصال الخاصّة بالحزب. فقد أدّت إلى إصابة ما يزيد على ألفَي شخص من كوادر الحزب على كلّ الأراضي اللبنانية، وصولاً إلى سوريا، وما بينهما مقرّ السفارة الإيرانية في بيروت، حيث أصيب السفير الإيراني في بيروت مجتبى أماني وفقاً لما نقلته وكالة “مهر نيوز” الإيرانية.
الهجوم السيبراني الإسرائيلي عبر أجهزة “البيجر” لا يمكن تفسيره إلا عبر نظريّتين متناقضتين:
– النظريّة الأولى: يرجّح خبير كبير في الاتصالات والتكنولوجيا لـ”أساس” أنّ تفجير أجهزة “البيجر” تمّ عبر “شيب” (شريحة) معيّنة تمكّن واضعها من التحكّم بها، سواء للتنصّت أو لتفجير الجهاز. وبالتالي هناك “ستوك” تمّ استقدامه من قبل الحزب من مصدر معيّن، وهو على الأرجح إيران، وتمّ وضع هذا “الشيب” في نقطة الاستيراد. وهنا يمكن أن يكون قد حدث الخرق الإسرائيلي. في هذا “الشيب” يمكن تقنيّاً وضع موادّ متفجّرة هي عبارة عن ملليغرامات قليلة تُحدث انفجاراً يؤدّي إلى إيذاء حامل الجهاز.
يضيف خبير الاتصالات: “هذه النظرية تتقدّم على باقي النظريات في حال كانت خارطة التفجير تشمل كلّ الجبهات جغرافيّاً من اليمن وصولاً إلى لبنان. وإنّ توسّع خارطة الاستهداف نحو اليمن يؤكّد نظريّة “الشيب” ويسقط نظرية الموجة الإلكترونية”.
يختم قائلاً: “على الرغم من ترجيح نظرية “الشيب” لا يمكن الجزم بذلك إلا عند انتهاء التحقيقات التقنيّة وتفحّص الأجهزة المنفجرة، وتحديد مدى الإصابات التي لحقت بالمستهدَفين”.
هذه النظرية يعزّزها ما نقلته القناة 12 العبريّة عن مصادر أمنيّة إسرائيلية من أنّ “الأجهزة التي انفجرت بعناصر الحزب كان قد استوردها الحزب قبل 3 أشهر”. فيما ذكرت القناة 14 العبرية أنّ “الحزب قد استورد دفعة من أجهزة الاتّصال التي انفجرت عن طريق شركة إيرانية تدعى “تيليريم”. الاختراق الإسرائيلي تمّ داخل إيران وليس في لبنان، وقد تمّت برمجة الأجهزة لإصدار صوت قبل التسخين والانفجار لكي يقترب حامل الجهاز منه قدر الإمكان قبيل التفجير”.
– النظرية الثانية: حصلت التفجيرات عبر الموجة التي تعمل عليها تلك الأجهزة، ويشرحها خبير الاتصالات المهندس عامر الطبش قائلاً لـ”أساس”: “أصدر الحزب تعمیماً بحظر استعمال الأجھزة الخلویة الذكية في وقت سابق، وجرى الحديث عن اعتماد الحزب على ما یعرف بـ”البيجر”، وهو جهاز أحاديّ الاستقبال، بحيث يتمّ إرسال رسائل مشفّرة إلى حاملي تلك الأجهزة ضمن “كودات” متّفق عليها من أجل التعبئة أو توجيه الكوادر القيادية. مثال على ذلك أنّه إن أُرسل إليك الرقم 111 على سبيل الافتراض فذلك يعني التجمّع في نقطه محدّدة مسبقاً. لم يكن لدينا ما يؤكّد امتلاك الحزب لأجهزة كهذه. ما شاهدته من فیدیوھات وصور يؤكّد الأمر. “البیجرات” تحتوي على بطارية ليثيوم، والعدوّ التقط الموجة المستعملة من قبل الحزب فأحدث نوعاً من الضغط على تلك الأجهزة الموجودة على الموجة المستهدفة فانفجرت البطاريات. وانفجار اللیثیوم مؤذٍ جداً، وهو أمر لا يحصل في الھواتف الذكیة التي تحتوي على أنظمة حماية من الضغط على البطارية. ما حصل تقنياً أنّ العدوّ الإسرائيلي دفع أجهزة “البيجر” الموجودة مع عناصر الحزب إلى الانتحار التقني”.
يضيف الطبش: “التقاط الموجة يحصل بفعل الرصد التقني أو عبر خرق بشري للتقنيّين المشرفين على هذه الأجهزة وموجاتها. الرصد يمكن أن يحصل عبر عمليّات مسح مستمرّة”.
يتابع كلامه: “اختُرقت الموجة وصار العدوّ الإسرائيلي متأكّداً أنّ الحزب يستعملها فقاموا بالهجوم المتزامن وأدّت إلى ما أدّت إليه لكلّ من كان يحمل جهازاً على الموجة المرصودة في أيّ بقعة جغرافية”.
يختم الطبش: “هناك ضربة كبيرة وجّهت لسلاح الاتصالات في الحزب. بداية توقّف الهاتف الذكي والشبكة الأرضية والإنترنت والكاميرات واليوم البيجر”.
من يقف خلف الإعصار؟
من جهتها، أدانت الخارجية اللبنانية في بيان لها الهجوم السيبراني الإسرائيلي، ورأت أنّ التصعيد الإسرائيلي الخطير والمتعمّد يترافق مع تهديدات إسرائيلية بتوسعة رقعة الحرب. وأشار بيان الخارجية اللبنانية إلى أنّ لبنان يُحضّر شكوى إلى مجلس الأمن فور اكتمال المعطيات الخاصّة بالاعتداء.
وُجّهت أصابع الاتّهام مباشرة إلى إسرائيل، بخاصة بعد تغريدة لمستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على منصّة (إكس)، أشار فيها إلى وقوف إسرائيل خلف العملية، ثمّ سارع بعد دقائق إلى حذفها. وأعلنت هيئة البثّ الإسرائيلية أنّ مجلس الأمن القومي الإسرائيلي طلب من الوزراء عدم الإدلاء بأيّ تصريحات حول ما يحدث في لبنان. فيما الحزب حمّل إسرائيل مسؤولية ما حصل، معتبراً أنّه اعتداء على المدنيين، متوعّداً بالردّ المناسب، قائلاً في بيانه: “هذا العدوّ الغادر والمجرم سينال بالتأكيد قصاصه العادل على هذا العدوان الآثم، من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، والله على ما نقول شهيد”. ثمّ ألحق الحزب بيانه الأوّل ببيان ثانٍ جاء فيه: “بعد التدقيق في كلّ الوقائع والمعطيات والمعلومات المتوافرة حول الاعتداء الآثم فإنّنا نحمّل العدوّ الإسرائيلي المسؤولية كاملة”.
ماذا يعني هذا الهجوم عسكريّاً وأمنيّاً واستراتيجيّاً؟
– أوّلاً، من الناحية العسكرية يمكن اعتباره، من حيث حجمه الواسع النطاق الذي أصاب عدداً كبيراً من أفراد الحزب، ضربة كبيرة لمنظومة التحكّم والسيطرة بعد انتقال الحزب إلى ما ظنّ أنّه منظومة اتّصال آمنة، بخلاف أيّ وسيلة اتصال أخرى معرّضة للاختراق. فإذا كان من هجوم وشيك فإنّ المقصود بالاعتداء توجيه ضربة قويّة لنظام القيادة والسيطرة تمهيداً للهجوم الواسع النطاق الذي كثر الحديث عنه أخيراً. لكن إن كان الهجوم غير قريب فما جرى هو أقرب إلى مناورة عسكرية قد تكون بدلاً حتى الآن عن هجوم برّي مباشر.
– ثانياً، من الناحية الأمنيّة، هو الهجوم السيبراني الأكثر تعقيداً وخطورة عندما جعل من جهاز اتصال آمن، كما هو مفترض، أداة اغتيال لكلّ حامل لهذا الجهاز. وقد يكون حامله عنصراً عاديّاً أو قائداً عسكرياً أو سياسياً رفيع المستوى. وقد يكون القصد اغتيال شخصيات كبيرة في الحزب من دون تعمّد واضح باعتبار أنّ العملية استهدف مئات الأفراد من مختلف الرتب والمهامّ. وفي المحصّلة، يشكّل هذا الخرق مشكلة أمنيّة عويصة للحزب سينشغل بها في الأيام المقبلة لمعالجة هذا الاختراق بأسرع وقت ممكن.
– ثالثاً، من الناحية الاستراتيجية، يمكن تقويم هذا الهجوم على أنّه ضربة موازية لما فعلته حركة حماس في تشرين الأول الماضي. وبهذا يمكن نتنياهو أن يزعم حصوله على صورة النصر التي يريدها واستعادة قوة الردع الإسرائيلية التي تهاوت في خريف العام الماضي.
عن موقع أساس