مقالات مختارة

"اليوم التالي" لن ينضج قبل الإنتخابات الأميركية

 

بقلم: مروان المعشر

مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الرابع، يحتدم النقاش حول من يجب أن يحكم القطاع عندما يتوقف القتال. البعض اقترح تشكيل قوة عربية، لكن مصر والأردن ودول عربية أخرى رفضت الفكرة. آخرون اقترحوا إعادة تمكين السلطة الفلسطينية، متجاهلين حقيقة أن أقل من 10% من الفلسطينيين فقط سيدعمون مثل هذه الفكرة. ويتلخص الاقتراح الثالث بوضع غزة تحت السيطرة الدولية، وهو ما ترفضه إسرائيل. كل هذه الحلول التي يتم تداولها في أروقة السياسة العالمية محكومة بالفشل لأنها تتعامل مع القطاع وكأن بالإمكان معالجة الوضع من دون معالجة القضية الأوسع المتمثلة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة وحق تقرير المصير. كذلك فإن أي حديث عن “من سيحكم غزة” على اعتبار أن حركة حماس “ستنتهي” يعني المراوغة والموافقة المسبقة على أن ما حدث يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وبعده، وما كان يحدث قبله، سيظل قائماً، والأسوأ سيقع في المستقبل. عقود من المفاوضات الفاشلة لكي نعرف كيف سيكون “اليوم التالي” من الضروري أولاً أن نفهم السياق الذي وقعت فيه “عملية طوفان الأقصى” يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبرغم أن القضية الفلسطينية بدأت مع حرب عام 1948، فإن معضلات أزمة اليوم بدأت مع حرب 1967، عندما احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وشرَّدت نحو 300 ألف فلسطيني. مضت عقود من الجهود لإنهاء الاحتلال وإقامة مستقبل فلسطيني قابل للحياة. كانت المحاولة الأولى هي القرار الدولي رقم 242 (تشرين الثاني/نوفمبر 1967)، الذي لم ينصَّ على إقامة دولة فلسطينية، بل كان من المفترض أن تعود غزة تحت السيطرة المصرية والضفة تحت السيطرة الأردنية. كذلك لم يحدد القرار إطاراً زمنياً لإنهاء الاحتلال، واكتفى بالدعوة إلى عملية سياسية مفتوحة وغير ملزمة. بعد عقدين ونصف من الزمن، نجح مؤتمر مدريد (عام 1991) في جلب الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات. ومع ذلك، مرة أخرى، تركت العملية السياسية الحل النهائي غير واضح بإستثناء الإشارة إلى القرار 242، الذي دعا إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، لكن إسرائيل فسّرته على أنه لا يعني الانسحاب من كل الأراضي، بل فقط من ما يسمى بالحدود الآمنة.

 

ثم جاءت اتفاقية أوسلو (1993) التي أدَّت إلى الاعتراف المتبادل، وإنشاء سلطة فلسطينية مؤقتة في قطاع غزة وأجزاء من الضفة والشروع بمفاوضات عنوانها إيجاد “حل” دائم للصراع وتحقيق سلام شامل. لكن تلك المفاوضات توقفت بعد خمس سنوات دون أي نتيجة، لأن الأطراف فشلت في تحديد ماهية “الحل” الذي أرادوه. فـ"أوسلو" لم تنص على تجميد الاستيطان. لذلك، وبينما كان الجانبان يتفاوضان حول مستقبل الأراضي المحتلة كان أحدهما (الإسرائيليون) يواصل تغيير جغرافية هذه الأراضي وتركيبتها السكانية (في جلسة مصادقة الكنيست على الجزء الثاني من اتفاقيات أوسلو، في أيلول/سبتمبر 1995؛ أعلن رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين أن هدف إسرائيل هو “كيان فلسطيني أقل من دولة”. في الواقع، لم يتفق الجانبان على “نموذج الدولتين” حتى العام 2000، عندما عرض الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون على الجانبين إطاراً شاملاً يقوم على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 إلى جانب دولة إسرائيل، مع ترتيبات خاصة للقدس واللاجئين والقضايا الأمنية. وعندما فشلت مفاوضات اللحظة الأخيرة واندلعت الانتفاضة الثانية، أصبح الطرفان على قناعة بأنه ليس لديهما شريكاً للسلام على الطرف الآخر من الطاولة. ومنذ ذلك الحين فشلت كل الجهود المتتالية: مبادرة السلام العربية عام 2002، خارطة الطريق (2002-2003)، مؤتمر أنابوليس (2007)، وكذلك الدبلوماسية المكوكية التي قام بها وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري عام 2013 – وكانت آخر جهد رسمي من قبل واشنطن للمساعدة في التفاوض على تسوية. إن السبب الرئيسي لفشل كل تلك الجهود وجود قصور مشترك بينها: المفاوضات كانت مفتوحة، عدم توفر آلية مراقبة ذات مصداقية للتأكد من أن الأطراف تفي بالتزاماتها، والاختلاف حول النتيجة النهائية. من الفشل إلى الكارثة بالنسبة للفلسطينيين، كانت عواقب هذه الإخفاقات مدمرة. فقد تمكنت إسرائيل من مواصلة الاستيطان وقضم الأراضي في الضفة والقدس الشرقية (وحتى عام 2005 في غزة). والنتيجة تفكيك الأراضي الفلسطينية المتاخمة، وارتفع من 250 ألفاً إلى أكثر من 750 ألفاً، ما يساوي ربع سكان الضفة والقدس الشرقية، مما ضاعف من صعوبة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وفي خضم تلك المفاوضات الفاشلة، عانت غزة من أوضاع قاسية جداً. ففي العام 2005، قرَّر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون الانسحاب من دون التنسيق مع السلطة الفلسطينية. كان لتلك الخطوة عواقب ونتائج كارثية على الفلسطينيين: فقد بنت إسرائيل جداراً حول القطاع لعزله، وفرضت قيوداً صارمة على المعابر، ولم تسمح للفلسطينيين ببناء مطار أو ميناء بحري. ما يعني أن الاحتلال استمر حتى من دون وجود فعلي على الأرض.
 

عندما انتهت إدارة الرئيس باراك أوباما، تخلت واشنطن تماماً عن مهمة “وسيط السلام”، واستبدلتها بـ"اتفاقات أبراهام" التي لا تستند إلى صيغة “الأرض مقابل السلام” المستمدة من القرار 242، ولا تولي أي اعتبار للجانب الفلسطيني. وبدورها، استغلت الحكومة الإسرائيلية "اتفاقات أبراهام" لتتصرف وفق مبدأ أن التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين "غير ضروري طالما بالإمكان عقد اتفاقيات منفصلة مع دول المنطقة". هذا هو السياق الذي وقعت فيه "عملية طوفان الأقصى". كل ما سبق ساهم في تحويل غزة إلى سجن كبير طوال الـ 18 عاماً الماضية، ولم يبق لسكان هذا "السجن" أي أمل يجعلهم يعتقدون أن الاحتلال سيزول. متطلبات السلام تعترف إدارة الرئيس جو بايدن أنه ستكون هناك حاجة إلى عملية سياسية بعد انتهاء الحرب في غزة. وهي بدأت بالفعل في مناقشة "اليوم التالي. ولكن إذا كان المقصود هو فقط من سيحكم غزة بعد "حماس"، أو إذا لم تضع واشنطن إطاراً زمنياً مدروساً وواضحاً، تكون بذلك تكرر الأخطاء السابقة وتحكم على العملية السياسية المفترضة بالفشل مسبقاً. إن الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين يشعرون اليوم أنهم خُدعوا، وانخرطوا لعقود في مفاوضات عقيمة لإنهاء الاحتلال بينما كانت إسرائيل تفرض حقائق على الأرض تجعل حل الدولتين مستحيلاً. لذلك، فإن أي عملية سياسية في غزة يجب أن تكون ذات مصداقية، وبسقف زمني، ونهاية محددة سلفاً وبوضوح قبل بدء أي مفاوضات. وخلاف ذلك سيكون مجرد مضيعة للوقت.

من الأهمية بمكان الإعتراف بأن العناصر الضرورية لأي عملية سياسية جادة تقودها واشنطن غير متوفرة حالياً. فأميركا على أبواب انتخابات، وإطلاق عملية سلام يتطلب منها ممارسة الضغط على جميع الأطراف – إسرائيل على وجه الخصوص – وهذا ما ليس بالإمكان فعله. كما أن الحكومة الإسرائيلية أعترفت، مراراً وتكراراً، أنها لا تنوي إنهاء الاحتلال أو المساعدة في إنشاء دولة فلسطينية. أضف إلى ذلك أنه وبرغم أن غالبية الإسرائيليين يُحمّلون الحكومة الإسرائيلية الحالية مسؤولية الفشل الأمني الذي حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وبرغم استطلاعات الرأي التي تقول أن المعارضة ستفوز بسهولة إذا ما أُجريت إنتخابات غداً، إلا أن الانقسام العام في إسرائيل اليوم لم يعد بين المعسكر الؤيد للسلام والمعسكر المعارض له (كما كان الحال قبل عقود). الإنقسام اليوم هو فقط بين مؤيد لشخص رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومعارض له، حيث يتخذ الجانبان موقفاً متشدداً ومتطابقاً تقريباً ضد فكرة “الدولة الفلسطينية المستقلة”. في الوقت نفسه، فقدت السلطة الفلسطينية الكثير من مصداقيتها وشرعيتها. فهي لم تُجرِ انتخابات منذ عام 2006، وشعبيتها انخفضت بنسبة كبيرة جداً حتى قبل "طوفان الأقصى": 88% من الفلسطينيين يطالبون باستقالة الرئيس محمود عباس، و7% فقط يريدون أن تحكم "السلطة" بقيادة عباس غزة بعد الحرب (1). كما أنه من المؤكد أن لا "السلطة" ولا إسرائيل ولا الولايات المتحدة من الممكن أن تسمح بإجراء أي انتخابات في المدى القريب، لأن "حماس" ستحصل حُكماً على أكثرية الأصوات. لضمان نجاح أي عملية سياسية مرتقبة وتجنب مزالق المفاوضات السابقة، يتعين على واشنطن أولاً أن تقدم خطة سياسية تُحدّد هدفاً واضحاً يتمثل في إنهاء الاحتلال خلال إطار زمني محدد (3-5 سنوات). وبمجرد أن تبدأ العملية السياسية، سيكون لدى الجانبين حافزٌ لإعادة النظر في الحلول التي تم رفضها في الماضي. على سبيل المثال، من الممكن أن تتحول عملية إعادة إعمار غزة إلى خطوة على طريق التسوية النهائية. من الممكن أيضاً إنشاء صندوق دولي لمساعدة الفلسطينيين على البقاء في أراضيهم وتبديد مخاوفهم من خطر "الترحيل". ويمكن بعد ذلك إحياء "مبادرة السلام العربية" مما يمنح الدول العربية دوراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً في الأراضي الفلسطينية، ويشكل حافزاً قوياً للإسرائيليين لتبني "المبادرة". قد يبدو هكذا طرح طموحاً، لكن من دونه سيكون على المجتمع الدولي أن يزن تكاليف البدائل بدقة. من سيء إلى أسوأ إذا ثبت في نهاية الحرب في غزة أن تنفيذ عملية سياسية جادَّة أمر مستحيل، فقد تتكشف ثلاثة سيناريوهات بديلة: البديل الأول: أن يفترض الطرفان (ومعهما الولايات المتحدة) أن حل الدولتين هو في النهاية النتيجة المفضلة للجميع، وأن الأمر ببساطة يتعلق بوجود قوى سياسية مناسبة في السلطة لتحقيق ذلك. لكن في إسرائيل، انخفض الدعم داخل الكنيست لاتفاقية سلام وتقاسم الأراضي؛ من أغلبية الأعضاء قبل 30 عاماً إلى 15 عضواً فقط. علاوة على ذلك، أن الوضع الراهن غير ثابت، نظراً لإصرار إسرائيل على توسيع المستوطنات وقضم أراضي الفلسطينيين. وإذا كان عدد المستوطنين اليوم يجعل من الصعب فصل المجتمعين إلى دولتين، فقد يصبح الوضع أكثر سوءاً في غضون سنوات قليلة، بمجرد أن يتجاوز عدد المستوطنين المليون مستوطن. البديل الثاني (أسوأ من الأول): ترحيل جماعي للفلسطينيين، إما بالقوة أو بجعل الحياة داخل الأراضي المحتلة لا تُطاق. والسبب في ضرورة أخذ هكذا سيناريو على محمل الجد هو الواقع الديموغرافي الذي تواجهه إسرائيل اليوم (عدد العرب الفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسيطرة إسرائيل يبلغ 7.4 مليون نسمة، وهو عدد يفوق عدد اليهود الإسرائيليين داخل إسرائيل والأراضي المحتلة والذي يبلغ 7.2 مليون نسمة). وبالنظر إلى أن إسرائيل لا تريد إنهاء الاحتلال وقبول حل الدولتين، ولا تريد أيضاً أن تصبح أقلية تحكم الأغلبية فيما يوصف بالفصل العنصري، فإن خيارها المفضل سيكون ترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين: من غزة إلى مصر، ومن الضفة إلى الأردن.
 

وقد أوضحت الحكومة الإسرائيلية بالفعل أنها تفكر على هذا المنوال. فقد أصبحت أجزاء كبيرة من غزة غير صالحة للسكن، وبدأ العديد من المسؤولين الإسرائيليين، بينهم نتنياهو، الترويج للفكرة بأساليب متعددة. وهذا يتركنا أمام بديل ثالث وهو الأكثر ترجيحاً: استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ولكن مع ظروف أسوأ بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى. إن معدل المواليد لدى الفلسطينيين أعلى من نظيره بين اليهود الإسرائيليين. ومع فقدانهم الأمل على نحو متزايد في احتمال قيام دولة فلسطينية، فإن مطالبتهم بالمساواة في الحقوق مع الإسرائيليين ستزداد صخباً وإصراراً. وقد يصبح الصراع بعد ذلك أكثر عنفاً (63% من الفلسطينيين يؤيدون الكفاح المسلح لإنهاء الاحتلال) (2). والواقع أن هذا ما بدأ بالفعل في الضفة في الأشهر التي سبقت "طوفان الأقصى". فإذا ما قرّرت إسرائيل مواصلة الاحتلال، فإن التحدي الذي تواجهه لن يكون داخلياً فقط. هناك اليوم جيل شاب ناشئ في أميركا والعديد من الدول الغربية يدعم القضية الفلسطينية. ومع صعود هذا الجيل إلى مواقع السلطة وصناعة القرار، سيصبح العالم أكثر انتقاداً للاحتلال الإسرائيلي، مما سيؤدي إلى عزلة إسرائيل بشكل متزايد على المسرح العالمي. المجتمع الدولي يتحمل جزءاً من المسؤولية فيما وصلت إليه الأوضاع داخل فلسطين نتيجة تخليه عن أي محاولة جادَّة لمعالجة الأسباب الأساسية للصراع، فإما أن تتخذ أميركا وشركاؤها الدوليون قراراً تاريخياً بإنهاء الصراع الآن والعمل على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة، أو سيتعين على العالم أجمع أن يتعامل مع مستقبل أكثر قتامة.. وقريباً لن تكون الأمر مسألة احتلال، بل قضية الفصل العنصري الصريح. ولا يمكن أن يكون الخيار أكثر وضوحاً.

عن الفورين أفيرز

Loading...