تباينت آراء الشعب الأردني في نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت يوم العاشر من سبتمبر/ أيلول، وأفرزت نتائج متوقعة من حيث الاتجاه، وغير متوقعة من حيث نسب الفوز أو أرقامه المطلقة. وكان كثيرون يتوقعون أن يكون نصيب التنظيم الأطول عمراً والأوسع مشاركة (حزب جبهة العمل الإسلامي) الفوز بحوالي 25 مقعداً من القائمة الحزبية، والقوائم المحلية التي شارك فيها. أما الحزبان الأكبر المؤسَّسان قبل عام تقريباً، فقد حظي الأول منهما (الميثاق) بثلاثة مقاعد من قائمة الحزب، وثمانية عشر نائباً من القوائم المحلية، بينما فاز الثاني (إرادة) بتسعة عشر مقعداً منها ثلاثة وفق القائمة الحزبية.
وحصلت عشرة أحزاب فقط على مقاعد، تراوحت بين حدّ أعلى ثلاثة أو حد أدنى مقعد واحد. أما باقي الأحزاب التي لم تجتز العتبة (Threshold) فقد أعيد توزيع أصواتها على الأحزاب الفائزة. وقد صوت للأحزاب نحو مليون وأربعمائة ألف ناخب للخمسة والعشرين حزباً أو تكتلاً حزبياً، ما جعل العتبة حوالي 41 ألف صوت. ولولا إعادة توزيع الأصوات للأحزاب التي لم تنل مقعداً على الفائزين، لكان حزب جبهة العمل الإسلامي متقدماً كثيراً على باقي الأحزاب التي فاز أكبرها بـ61 ألف صوت، في الوقت الذي حصلت فيه الجبهة على نحو نصف مليون صوت، أو ثلث أصوات المقترعين حزبياً.
وجاء تركز الفوز للجبهة في المحافظات الأكثر سكاناً، والأكثر حضوراً من حيث عدد الناخبين من أصول فلسطينية وهي عمّان ثم الزرقاء ثم إربد. ولكن الحركة قدمت كثيراً من الوجوه الفائزة ومن النساء، وممن ليسوا من أصول فلسطينية. وفاز على إحدى قوائم الجبهة مسيحي (النائب المدانات)، وامرأة فازت بالكوتا. ولذلك يعتبر إنجاز الجبهة متفوقاً على أحسن التوقعات.
ورغم هذا فإن عدد النواب المنتمين للجبهة 31 نائباً لا يشكل أكثر من 22.5% من عدد المقاعد النيابية. وهي كتلة برلمانية مهمة إذا ساندت بثقلها أي جهة أخرى، ولكنها وحدها ليست كافية للتأثير على سياسات الدولة الأردنية وتوجهاتها الأساسية. وحتى لو افترضنا أن قضية ما طرحت، ووقفت الجبهة منها موقفاً صارماً، فإن عدد المناصرين لها لن يزيد على 12 عضواً آخرين من ذوي الميول الإسلامية (حزب الوسط الإسلامي)، وبعض أصحاب الميول اليسارية وهم ندرة. أما المفاجأة فهي أن الأحزاب الثلاثة اليسارية التي دخلت الانتخابات لم تفز بأي مقعد.
برزت إلى السطح تحليلات رقمية وإحصائية كثيرة، إما تبالغ في الإنجاز أو تقلل من الإنجاز الكلي للعملية الانتخابية أو للنجاح الذي حققته بعض الأحزاب أو القوائم المحلية. وسمعنا من الهيئة المستقلة للانتخابات بعضاً من هذا النسق الكلامي الهادف إلى إبراز نجاح أكبر للعملية الانتخابية ككل. وقارن رئيس الهيئة أعداد المقترعين بما هي نسبة من الناخبين المسجلين عام 2024 بنفس النسبة لانتخابات عام 2020، وقال إنها ارتفعت هذا العام. وهذا صحيح بنسبة ضئيلة.
ولكن أحداث غزة دفعت بعض الناس لانتخاب من كانوا نشطاء مع المقاومة في غزة. أما عام 2020 فقد نقصت الأعداد بسبب "كورونا" التي حدّت حركة الكثيرين وحالت دون ذهابهم إلى أماكن الاقتراع. ولذلك، فإن إبراز نجاح انتخابات هذا العام بالمرة الماضية لا يخضع لمعايير متشابهة أو متماثلة. ولذلك يصبح هذا النجاح أقل مما يجب أن يكون عليه.
وصرح رئيس الهيئة أن حوالي نصف مليون ناخب من المغتربين قد سجلوا أسماءهم في سجلات الناخبين، ولكنهم لم يتمكنوا من المشاركة، ولو أضيفت هذه الأعداد إلى قوائم الذين انتخبوا لارتفعت نسبة المشاركة من 32.25% إلى حوالي 36.5%، وهذا قول مفرط في التفاؤل. وحسبي أنه بنى هذه النتيجة على أن المغترب الذي كلف نفسه عناء التسجيل كان سينتخب فعلاً لو أن توقيت الانتخابات حصل في منتصف أغسطس/ آب أو 25 يوماً أبكر من توقيتها الفعلي. لا أشارك هذا الرأي الإحصائي، ولكنه يفتح التساؤل حول عدم تمكين المغتربين من المشاركة ولو من على بعد، أو سمح لهم بالانتخاب المبكر. على كل هذه قضية يجب أن تحل قبل انتخابات 2028 القادمة.
ومن الإحصاءات ما يقول إن بعض الأخطاء قد ارتكبت عندما أعيد تعريف الدوائر خاصة في عمّان وإربد، فعمّان كانت في انتخابات 2020 مقسمة إلى ست دوائر، وإربد كانت أربعاً حسب ما تسعفني به الذاكرة. ولكن خُفِّضت دوائر كل منهما إلى النصف. فصارت محافظة العاصمة ثلاثا ومحافظة إربد اثنتين. وقد اقتضى هذا الأمر إعادة توزيع أماكن الاقتراع حسب نظام الدوائر الانتخابية الجديد. ولم يراع في ذلك في أحيان كثيرة عنوان الناخب ومكان اقتراعه، علماً أن البرنامج الإلكتروني الذكي قد صمم بطريقة فعالة لكي يعرف كل ناخب مركز الاقتراع الذي سوف يدلي فيه بصوته، ولكن المسافات كانت أحياناً بعيدة، مما أدى إلى إحجام البعض عن تكبد مشقة الانتقال، فتقاعس عن المشاركة. وهذه نقطة يمكن تلافيها والتحسين عليها في المرات القادمة.
هنالك أشخاص لهم حضور على الساحة حاولوا إنشاء أحزاب، ولكن كلفة ذلك لم تتوفر لديهم. ولما سعوا للحصول على التمويل من جهات رسمية ادعى هؤلاء أن الجهات الرسمية المختصة لم تساعدهم في ذلك. وهنا يثور السؤال: هل كانت الأحزاب الجديدة المشكلة عند تحديد الملك عبدالله الثاني لموعد الانتخابات محصورة في الأشخاص المقتدرين مالياً؟ ولذلك يقول الذين لم يتمكنوا من المشاركة إن الأحزاب التي أنشئت ليس فيها قيادات سياسية بارزة.
وبعض أولئك يتخوف من أن أسماء الناجحين من حزب الجبهة الإسلامية هم أشخاص معروفون بحضورهم الشعبي، وموقفهم من غزة كان واضحاً ومن ضرورة الإصلاح بيِّناً. ولذلك، وإن كان عدد النواب من "الجبهة الإسلامية" لا يشكل إلا 22% من مجموع النواب، إلا أن غياب القيادات النيابية الفاعلة عند الأكثرية الباقية قد يبقيها متأثرة بالقيادات الإسلامية وقدراتها الإقناعية.
هذه تقديرات واجتهادات قد تجد ما يبررها. ولكن نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات قد أثار تساؤلات ومخاوف في بعض دول الخليج. وفي إسرائيل قام عدد من أعضاء الكنيست من المتطرفين بتهديد الأردن الذي سمح لداعمي المقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة بتحقيق هذا النجاح نكاية في إسرائيل. وآخرون في الأردن يحللون أن نجاح الإسلاميين هو رسالة أردنية مقصودة لدول الخليج التي طبعت مع إسرائيل، أو التي لا تقدر دقة الموقف الأردني، والأردن الصامد والمتماسك الوحيد من الدول التي تقع إسرائيل على حدودها.
وهذا بالطبع يستثني المملكة العربية السعودية التي أصبحت حديثاً جارةً بحرية لإسرائيل بعد انتقال جزيرتي تيران وصنافير من مُلكية مصر إلى المملكة. وهناك اتفاق كامب ديفيد الذي رسم الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل بالقرب من تيران. وقد طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن تعلن السعودية عن موقفها حيال ذلك الأمر.
والآن ما هو الموقف الأميركي الذي طالب الأردن باستمرار انتخابات نزيهة ديمقراطية شفافة مفتوحة؟ لقد شهد كل المراقبين للانتخابات أنها كانت نظيفة محايدة وعاكسة لموقف الناخب الأردني. ولكن النتيجة قد لا ترضيهم. فهل سيقبلون بها أم أنهم سيخضعونها للمعايير المزدوجة؟ والأردن تربطه بالولايات المتحدة علاقات وثيقة عسكرية وأمنية واقتصادية وثقافية، ولا أحد من الجانبين يرغب في رؤية تلك العلاقات تتراجع. ومن هنا، فإن استمرار فشل أميركا في إنهاء حرب غزة قد يكون اختباراً لهذه العلاقة.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن بقاء نتنياهو رئيساً لوزراء إسرائيل بهذه الحكومة المتطرفة، واحتمال نجاح ترامب، قد يجعل أمور المنطقة كلها متأزمة ليس للأردن وحده، وإنما للمنطقة بأكملها.
وقد قدمت حكومة بشر الخصاونة يوم الأحد الماضي استقالتها بعد نشر أسماء الفائزين في انتخابات مجلس النواب العشرين في الجريدة الرسمية، وكلف الملك عبداالله الثاني، الأحد الماضي، جعفر حسّان بتشكيل الحكومة الجديدة التي أدت أمس الأربعاء اليمين الدستورية بعد أن تشاور مع الكتل والأحزاب الممثلة في مجلس النواب الجديد.