من الناحية التكتيكية، يبدو أن إسرائيل قد حققت بعض المكاسب المؤقتة في غزة، حيث تمكنت من تدمير العديد من البنى التحتية لحماس واستهداف قادتها وإعداد من مقاتلين المقاومة إضافة إلى القتل الإجرامي بأعمال الإبادة الجماعية لأعداد كبيرة من الشهداء غير مسبوقة في تاريخ صراعنا مع المشروع الصهيوني منذ بداياته رغم كل جرائمه، إضافة إلى جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة، بعد أن أدخلت إسرائيل أطرافاً عدة في نقاش حول أشكال وطبيعة ما يسمى باليوم التالي، وكأن موضوع الصراع يقتصر على غزة دون كافة الأراضي المحتلة، وبهدف التغطية على ما يجري من تنفيذ لمشروعها في غزة ولاستدامة الاحتلال ومشروع الحسم المبكر الصهيوني بالضفة الغربية وإعادة حصار أي كيان قد ينشأ في غزة وفق "الرؤية المتجددة الأمريكان وبعض العرب" أو احتلالها بأشكال جديدة دون ضجيجٍ دولي. إلا أنها تفتقد اليوم إلى ما أرعبت به المنطقة طيلة العقود الماضية من نظريات تفوق الردع والانتصارات الحاسمة.
وعلى الجبهة الشمالية مع لبنان، فإن الهجمات على أنظمة الاتصالات ومحاولات إضعاف حزب الله قد تكون جزءاً من هذه المكاسب التكتيكية. ومع ذلك، فإن هذه الانتصارات محدودة في التأثير، لأنها لا تعالج القضايا الأساسية التي تواجهها إسرائيل ومنها ما يعلن من أهداف لإعادة المستوطنين إلى المستعمرات الشمالية وتغيير قواعد الاشتباك مع حزب الله.
إسرائيل الآن تواجه أزمة استراتيجية كبيرة على الرغم من هذه الانتصارات التكتيكية، فإنها لا تزال غير قادرة على تحقيق حسم استراتيجي أو إيجاد حلٍ دائم للصراع، سواء في غزة أو على الحدود الشمالية مع حزب الله. أحد الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة هو الانتظار الطويل لنتائج الانتخابات الأمريكية، حيث تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً في دعم إسرائيل وتوجيه سياساتها الخارجية والأمنية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية بمنطقتنا.
في هذا السياق، إسرائيل قد تجد نفسها في مأزق استراتيجي، حيث أنها لا تستطيع اتخاذ خطوات حاسمة دون معرفة مواقف الإدارة الأمريكية المستقبلية، سواءً كانت بقيادة هاريس أو إدارة جديدة بقيادة ترامب قد تغير مواقفها تجاه الشرق الأوسط، أو أن تكون إسرائيل بانتظار فوز ترامب الذي يقترب عقائدياً من نتنياهو ومصالح اليمين الليبرالي الجديد بالعالم الذي يتمدد نفوذه اليوم ويضمن لإسرائيل مواقف الدعم الإستراتيجي الكامل أكثر من هاريس وحزبها الذي لا يختلف من حيث محددات تلك العلاقة الإستراتيجية مع إسرائيل إلا في هوامش ورؤية الحزبين حول القضايا العالمية الأوسع بشكل غير أساسي .
لكن هذا يجعل إسرائيل في وضعية تردد استراتيجي، فهي تحاول تحقيق مكاسب مؤقتة لتقوية موقفها التفاوضي خاصة مع المقترح الجديد الذي أعلنته اليوم بشأن الصفقة مع حماس والرسائل الموجهة لحزب الله في آن واحد، لكنها تدرك أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار على المدى الطويل بدون دعم أمريكي واضح ومحدد وكبير واستقرار داخلي إسرائيلي الذي من المتوقع أن يتحقق كما جرت الأحداث السابقة عندما يتعلق الأمر بمخاطر وجودية على إسرائيل، وبذلك ترغب في استمرار الدوران في حلقة مفرغة من المفاوضات بوجود دول الوساطة دون تحقيق شيء.
من جهة أخرى، فإن الأزمات الداخلية التي تعيشها إسرائيل تلعب دوراً كبيراً في تأخير اتخاذ قرارات نهائية بخصوص الجبهتين الشمالية والجنوبية. هذه الأزمات تشمل الانقسامات السياسية والاجتماعية والطائفية الحادة حول حكومة نتنياهو، التي تواجه انتقادات واسعة، خاصة فيما يتعلق بإصلاحات القضاء والخلافات بين الأحزاب اليمينية والمتشددة داخل الحكومة منذ ما قبل 7 أكتوبر الماضي، بالإضافة إلى ذلك، هناك احتجاجات شعبية مستمرة ومتصاعدة بالشارع الإسرائيلي التي تطالب بإبرام صفقة فورية مع حماس بهدف الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وإسقاط حكومة نتنياهو، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي.
هذا الوضع الداخلي المعقد يُضعف قدرة الحكومة الإسرائيلية على اتخاذ قرارات حاسمة بشأن غزة وحزب الله، حيث تحاول الحكومة تحقيق توازن بين التعامل مع التهديدات الخارجية والحفاظ على الاستقرار الداخلي. كما أن هذه الأزمات تجعل من الصعب على الحكومة تبني موقف موحد ومتماسك في التعامل مع التطورات على الحدود مع لبنان أو في غزة، وبالتالي تتأخر الاستراتيجيات الكبرى أو تتعرض للتعديل المستمر بناءً على التحديات الداخلية، وعلى الطموح الشخصي والعقائدي لنتنياهو.
لذلك، فإن إسرائيل تجد نفسها بين المطرقة والسندان، فهي من جهة تواجه تهديدات أمنية على عدة جبهات، ومن جهة أخرى تعاني من ضعف في الوحدة السياسية والاجتماعية داخلياً. هذا يخلق حالة من التردد في اتخاذ القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي، ويزيد من أهمية العوامل الخارجية مثل نتائج الانتخابات الأمريكية والمواقف الدولية خاصة مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتخذ أمس بأغلبية 124 دولة أمام الوقاحة الأمريكية بالمعارضة مما شكل انتصاراً لموقفنا السياسي والجهود الدبلوماسية إثر القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية والذي يتوجب البناء عليه من طرفنا وفق مفاهيم المقاومة الديبلوماسية، لأنها قد تعطي الدعم أو تفتح مجالات جديدة للتحرك على المستوى الإقليمي.
في ظل هذه الأزمات الداخلية، يمكن القول إن إسرائيل تعمل الآن على تحقيق مكاسب تكتيكية مؤقتة، لكنها لا تستطيع حسم الأمور استراتيجياً في ظل هذه الفوضى الداخلية التي تعيشها وسقوط ضحاياه بالشمال والجنوب من جهة، وفي ظل قرارات المحاكم الدولية والمؤسسات الأممية وحالة الانعزال التي تعيشها على المستوى الدولي إضافة إلى المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية بعد 7 أكتوبر بما يتعارض مع الرغبات الأمريكية وبشكل خاص ما تم إيضاحه من جانب السعودية أمس.