موقف الشامتين بحزب الله بعد مذبحة أجهزة الاتصال يشبه موقف الإسلاميين عندما تعرض جمال عبد الناصر لهزيمة فقدت فيها الأمة العربية باقي فلسطين وقدسها ومسجدها الأقصى وسيناء والجولان، عبر عن الموقف الشيخ محمد متولي الشعراوي بسجدة شكر لله على هذه الهزيمة حتى لا ينتصر الخصم عبد الناصر، وكذلك زينب الغزالي القيادية في حركة الإخوان المسلمين التي رقصت فرحاً لدى سماعها الخبر كما نقلت الشاهدة آنذاك رفيقة السجن نوال السعداوي.
لم يختلف اليوم عن البارحة لأُمة مازالت تعاني من أزمة هوية وأزمة فكرية تعشش في ثقافاتها، حيث مازالت مجموعة مجتمعات متفرقة أشبه بالقبائل كل واحدة تتنازع الزعامة على باقي القبائل، ولأن لا أحد منهم سجل تفوقاً في عالم شديد السرعة والتطور الذي يترك العرب خلفه، فالحل استعداء من يحاول المنافسة على الفضاء العام.
تلك كانت فكرة محاربة عبد الناصر من قبل العرب وكذلك صدام حسين وإلى حد ما ياسر عرفات.
العالم العربي منقسم وتتسع الهوة بين المواقف، بين مواقف النظم نفسها وبين النظم وبين الشعوب، وهكذا تنتج بيئة التسلط العربية حالة من الفوضى غير المفهومة، تجعل من قراءة تلك الكتلة الممتدة من المحيط إلى الخليج عصيّة على الفهم، فحالة التشوّه أكبر من قراءتها بوسائل علوم السياسة ونظرياتها.
لم يكن ذنب حزب الله سوى أنه غضب للإبادة التي ترتكبها اسرائيل في غزة، ففعل ما فعله أي عربي متضامن يضع اسرائيل في موقع الدولة الظالمة، بعضهم بالمقاطعة وبعضهم رافعاً علم فلسطين، وآخر شاهراً سلاحه كلٌ وفق إمكانياته التي امتلك الحزب أكثرها، فاندفع في معركة ليخسر بسبب الفلسطينيين الذين جرّوه بمغامرة غير محسوبة هذا القدر من الكوادر ويتلقى تلك الضربات، ولكن هذا في حسابات السياسة المجردة والمصلحة القومية والوطنية الفلسطينية العليا، لكن الحسابات الأخرى التي طالها التشوّه لا يمكن فهمها عربياً وتبدو شديدة الغرابة خاصة عندما تصدر عن فلسطيني.
ليس هذا هو المهم في هذا المقال، فتلك تحتاج إلى قراءة سيكلوجية العشيرة أكثر من قراءة السياسة، لكنها تنسحب على الراهن الذي يظهر فيه العرب بكامل فقرهم أمام التطور العالمي. وهذا ما كان واضحاً في الضربة التكنولوجية القوية التي وجهتها اسرائيل للحزب من خلال تفجير أجهزة الاستدعاء والاتصالات، والتي حتى اللحظة لم تتوصل التحليلات إلى توصيف مقنع لها، فالتحليل العربي لا يتجاوز سقف معارفه العلمية بينما دخل العالم مرحلة الجيل الخامس للحروب بأسرارها البعيدة وغموضها.
أزمة العرب أنهم أمة أيديولوجيا في عالم التكنولوجيا. وبين هذه وتلك ما ينذر بانكشاف عالم الأيديولوجيا الذي يتكئ على الكلام، فيما أقلع عالم التكنولوجيا نحو السلاح والقوة والأمن السيبراني والقتل الرشيق، بينما لا زال العربي يكتفي بالشكوى من ظلم الأقوياء واستعبادهم للأمة وسيطرتهم على قرارها.
"مَن لا يأكل من فأسه لا يتكلم من رأسه" هذا مثل قديم يعود لعصر الزراعة، لكنه ينسحب على كل شيء، قد ينطبق على العرب الذين اهتزت اقتصاداتهم لحظة الحرب الأوكرانية لأن كييف البائسة تتكفل بإطعام 600 مليون من البشر، فيما العرب ينتظرون بواخر القمح مما وراء البحار. أما في عصر الصناعة فالأمر أكثر فقراً لأمة لم تدخل عصر الصناعة بعد، لكن على صعيد التكنولوجيا فهي أكثر فداحةً لأن التكنولوجيا أصبحت ميدان القتال الأول والقوة الأولى. فإيلون ماسك أصبح يعادل البنتاغون، والحروب أصبحت تعتمد برامج الذكاء الصناعي، فيما العرب قابعون في لحظة الذكاء الطبيعي الفردي غير المُمَأسس الذي يتعلق بقدرة فرد على زعامة العشيرة وكفى الله المؤمنين شر العالم.
يستورد العرب كل شيء، وسائل التكنولوجيا وأدواتها بدءاً من أجهزة الكمبيوتر وأجهزة الاتصال والسلاح، ما يعني سيطرة مطلقة للمنتِج، فالذي يستورد السلاح من الصعب أن يخوض معاركه، والذي يستورد التكنولوجيا من الصعب أن يتفوق على صانعها، فلكل شيء أسراره ومن الصعب تصور فتح الأسواق بأسرارها أمام العرب، عدا عن قدرة المورّد على الاختراق والقرصنة والتنصت والاستيلاء على المعلومات، قال صديقي العراقي إن بغداد في أواخر التسعينات كانت قد استوردت أجهزة كمبيوترات أوائل دخول عصر الكمبيوتر، وبالمصادفة سقط أحدها على الأرض ليلاحظ المهندس قطعة زائدة ويأمر بتفتيشها، ليكتشف أن هناك مَن زرع جهازاً يتكفل بنقل كل شيء يتم كتابته على الأجهزة إلى جهات أخرى.
أما لماذا لم يصبح العرب أمة منتِجة بدءاً من القمح وصولاً للصاروخ وما بعده من التكنولوجيا التي تقف أمامها في حالة وصدمة واندهاش؟ العالم كله يتنافس على ممكنات العصر الحديث ببرامج "السايبر" وأشباه الموصلات والجيل الخامس، ومعه اسرائيل التي تعتبر من الدول المتقدمة في برامج الأمن السيبراني، فقد استثمرت في التكنولوحيا منذ أكثر من ربع قرن. قصة العرب طويلة وحزينة في هذا المجال تتعلق بالأولويات، فالأمة التي مازالت غارقة في صراعات الأيديولوجيا وتستنزف نفسها وطاقاتها وإمكانياتها وبنيتها التحتية لأن تبقى انتصاراتها في هذه القصة محكوماً عليها أن تبقى على الهامش، تحصي خساراتها وتتسلّى بصراعاتها الصغيرة، وتحاول الاكتفاء بانتصاراتها أو انتصار العشيرة، ولديها ما يكفي من وسائل الكلام والإعلام للترويج، محاولةً إقناع العرب أن نموذج بشير الجميل في لبنان والشاه في إيران أكثر أهميةً وفائدةً للعرب وللفلسطينيين..!