لا خلاف بأن جنود الجيش الإسرائيلي قاتلوا ولا يزالون يقاتلون ببطولة في الحرب في قطاع غزة، وألحقوا إصابات شديدة بقوات "حماس". مع ذلك، تجدني مضطراً لأقول بأسف شديد، إن إسرائيل تكبدت هزيمة استراتيجية في الحرب. أعرف انه لا يوجد قارئ لا يثور بشكل طبيعي لهذا القول، لكن إذا لم ننظر إلى الواقع بأعيننا سنقع في أوهام عابثة، ولن نصلح أبداً ما يستوجب الإصلاح.
إن الادعاء بأن إسرائيل تكبدت هزيمة استراتيجية ليس فقط ما أقوله أنا، بل أعلنت الحكومة ذلك بشكل رسمي: "لا تملك إسرائيل سيطرة فاعلة في ارض القطاع... في إطار النشاط العملياتي تصطدم قوات الجيش الإسرائيلي، اليوم، أيضا بمقاومة مسلحة لقوات العدو، تحت الأرض وفوق الأرض، في زرع عبوات ناسفة، إطلاق صواريخ مضادة للدروع وقناصة، بنار الصواريخ وبمحاولة استدراج قواتنا إلى منازل مفخخة وغيرها. هذه المقاومة تميز القتال في عموم المناطق في القطاع ابتداء من تشرين الأول... ضربت إسرائيل منظمة (حماس) وقدراتها العسكرية ضرباً شديداً، لكن هذه القدرات لم تنزع منها، وتتواصل الاشتباكات العنيفة ... اليوم، أيضا لدى (حماس) قدرة على ممارسة صلاحيات سلطوية في القطاع، وهي تواصل السعي إلى استخدام صلاحياتها من خلال بذل الجهود والكثير من المقدرات. يجد هذا الجهد تعبيره في عدة مستويات، الأساسي منها هو: رسم السياسة، وتفعيل أجهزة الأمن، وإقامة أجهزة امن جديدة للعناية بالنظام العام، غايتها السيطرة على المساعدات واحتياجات الحركة، وضخ الأموال إلى القطاع، وتوزيع الرواتب، وتوزيع المساعدات" (هذا مقتبس عن رد الدولة على الالتماس إلى المحكمة العليا في موضوع المساعدات الإنسانية).
باختصار شديد، تعترف الحكومة بالفم المليء بأنها فشلت في تحقيق هدف الحرب الأساس – تقويض حكم "حماس" وتصفية قدرتها العسكرية، وتواصل "حماس" الحكم في القطاع ولا تزال تملك قوة عسكرية فاعلة. لو كنت أقول لكم في نهاية تشرين الأول 2023، إن هذا سيكون الواقع بعد 11 شهراً من القتال لاعتقدتم أن عقلي تشوش، لكن هذا هو الواقع كما هو، وينبغي الاعتراف به وفهمه كي نتمكن من إصلاحه.
سمسرة "حماس"
أولا، علينا أن نسأل لماذا تكبدنا مثل هذه الهزيمة الاستراتيجية؟
رفض المستوى العسكري والمستوى السياسي الأعلى الاستماع إلى مشورة حكماء ومجربين منا ممن تصدوا بنجاح لكيانات "إرهابية" مثل "حماستان" في القطاع. هكذا مثلا التقى الجنرال المتقاعد، ديفيد بتراوس، مسؤولين إسرائيليين كبارا قبل بدء الخطوة البرية، وقال لهم، إن إسرائيل لن تتمكن من تصفية حكم "حماس" إذا لم تحتل القطاع وتقيم حكما عسكريا. ونقل رئيس الأركان الأميركي، الجنرال تشارلز براون، رسائل مشابهة لمسؤولين إسرائيليين. لشدة الأسف وقعت أقوالهم على آذان صماء.
بعد 7 تشرين الأول، كشف مسؤولو المستوى السياسي عن مفاجأتهم بأن ليس لهيئة الأركان أي خطة جاهزة لاحتلال قطاع غزة. "حماس" هي العدو الأنشط ضد إسرائيل منذ 2007، ولم يفكر أحد في هيئة الأركان بأنه ينبغي إعداد خطة لحرب واسعة ضده. لهذه الدرجة نالت استراتيجية احتواء "حماس" ومفهوم "جولات القتال" مكانة عميقة لدى المستوى العسكري الرفيع. في هيئة الأركان، اضطروا بالتالي لارتجال خطة حربية في ثلاثة أسابيع تحتاج إلى اشهر طويلة لإعدادها كما ينبغي. ونتيجة لذلك في خطة الحرب كانت مواضع خلل عديدة منذ البداية، ولم يكن ثمة وقت لفحصها وإصلاحها في إطار دراسة أركان مرتبة. عملياً، كانت الهزيمة الاستراتيجية مضمونة منذ الخطة التي أُعدت.
بدأ الجيش الإسرائيلي الحرب بخطوة قوية لكن بطيئة في شمال القطاع، بدلا من الهجوم بالتوازي في عدة محاور أو للأسف في حركة كماشة من الشمال والجنوب. نتيجة لذلك واصلت "حماس" تلقي السلاح، الذخيرة، الغذاء، والوقود عبر محور فيلادلفيا ومعبر رفح على مدى ثمانية اشهر. عزز هذا التموين قدرة صمود "حماس"، ودفعنا جراء ذلك ثمنا دمويا.
عندما حاولت أن استوضح في الزمن الحقيقي ما هو المنطق الكامن وراء الدخول فقط إلى شمال القطاع كان الجواب الأسوأ الذي تلقيته هو أن "الجيش كان يحتاج ليستعيد الثقة بنفسه".
حتى لو تلقينا هذا الجواب السيئ يطرح السؤال لماذا لم يتوجهوا إلى رفح وجنوب القطاع، بعد العملية في الشمال، وبدلا من هذا دخلوا إلى خان يونس؟
استندت خطة الحرب التابعة للجيش الإسرائيلي إلى استراتيجية "دخول وخروج"، أي أن الجيش يدخل إلى منطقة، يهزم قوات "حماس" فيها، وعندها يخرج من المنطقة. هذه الاستراتيجية هي أم كل الخطايا، وهي واحد من العاملين الأساسيين في الهزيمة. استراتيجية "دخول وخروج" أدت إلى أن تنجح "حماس" في ترميم قواتها في كل مكان خرجت منه قواتنا، بعد أن احتلتها بثمن باهظ. عقب ذلك، اضطر الجيش الإسرائيلي ليعود ليحتل المرة تلو الأخرى جباليا، الزيتون، الشجاعة، وخان يونس.
غير أن "الموغ بوكر" كشف النقاب، مؤخراً، عن أنه حتى في شمال القطاع، المكان الذي استخدم فيه الجيش الإسرائيلي القوة الكبرى، جندت "حماس" في الأشهر الأخيرة 3000 مقاتل إضافي كي تملأ صفوفها. مع أن فشل استراتيجية "دخول وخروج" لم تعد نظرية بل حقيقة مؤكدة، لا يزال رئيس الأركان يصر على مواصلتها، ولا يضغط المستوى السياسي عليه لتغييرها.
عارض وزير الدفاع ورئيس الأركان معارضة قاطعة إقامة حكم عسكري مؤقت في القطاع. ونتيجة لذلك لم ينهر الحكم المدني التابع لـ"حماس"، بل عملياً ساعدنا في الإبقاء عليه. حكم "حماس"، الذي لم يضطر ليتصدى لأي حكم بديل، كان يمكنه أن يسيطر بسهولة على كل المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى القطاع تقريبا، واستخدامها لأجل تعزيز حكمه (من يسيطر على الطعام والمياه يسيطر على السكان) وان يملأ جيوبه.
قاد يوآف غالانت سلسلة من الخطط الهاذية والمنقطعة عن الواقع لاستبدال حكم "حماس" بمحاولته العنيدة وعديمة المنطق للامتناع عن حكم عسكري مؤقت، وكلها فشلت فشلا مدويا ومتوقعا. واخطر من هذا، عززت خطط وزير الدفاع فقط "حماس". هكذا مثلا، في بداية شباط كشف النقاب عن "المشروع التجريبي للشمال"؛ خطة الوزير غالانت لإدخال مساعدات إنسانية "مباشرة لتجار فلسطينيين، بدون منظمات إغاثة وسيطة. التجار، بخلاف نشطاء "حماس"، سيكونون مراكز القوة الجديدة" (بعد يومين من ذلك كتبت أن هذه الخطة منقطعة تماما عن الواقع، ومآلها الفشل).
مؤخرا، كشف بوكر النقاب عن أن التجار الغزيين، الذين حرص وزير الدفاع على أن ينقل المساعدات الإنسانية اليهم، دفعوا لـ"حماس" 20% من مداخيلهم من بيع البضاعة للسكان الغزيين. المعنى هو أن غالانت مسؤول بشكل شخصي عن تعزيز "حماس"، لأنه بسببه ليس فقط مخازن "حماس" مليئة بالبضائع، بل انه منح أيضا منظمة "الإرهاب" مصدر دخل جارٍ، وحسب التقديرات ربحت هذه في الأشهر الأخيرة نصف مليار دولار من المساعدات الإنسانية، اكثر بكثير مما تلقته في فترة زمنية مشابهة عبر حقائب المال القطري سيئة الصيت والسمعة.
حمير يقودون أسوداً
في السطر الأخير، فشل "كابنت" الحرب بقيادة نتنياهو، غالانت وغانتس، وهيئة الأركان برئاسة هرتسي هليفي، في كل جانب من إدارة الحرب من ناحية استراتيجية. يتأكد هذا الفشل فقط في ضوء بطولة القوات المقاتلة (حتى رتبة عميد) ممن لم يكونوا اقل في الجسارة والتضحية من جيل 1948. "أسود تقودهم حمير" قيل عن الجيش البريطاني في حرب القرم، والأمور أصح بأضعاف بالنسبة للجيش الإسرائيلي في حرب غزة. كل المسؤولين عن الهزيمة الاستراتيجية يجب أن يتحملوا المسؤولية، وان يضعوا المفاتيح ويرحلوا.
الآن، ينبغي أن يتقرر ما الذي ينبغي لإسرائيل أن تفعله في الحرب من الآن فصاعدا. فمع أنه على مدى أشهر طويلة كتبت أنه يجب احتلال القطاع كله، وإقامة حكم عسكري فيه، وتثبيت سيطرة أمنية إسرائيلية طويلة يحتمل أن يكون هذا الآن بات متأخرا. تآكلت قوات الجيش الإسرائيلي في حرب استنزاف "دخول وخروج"، ومكانة إسرائيل الدولية تدهورت إلى الحضيض.
من جهة أخرى، من المحظور قبول منحى صفقة المخطوفين التي توجد على الطاولة الآن؛ لأنها خطوة خداع من "حماس". يعطي منحى الصفقة هذا "حماس" كل ما تحتاجه فورا – إنهاء فعلي للحرب، تلقي ضمانات دولية، وضمان مساعدات إضافية تعزز أكثر فأكثر سيطرتها في القطاع.
بالمقابل، لن تحصل إسرائيل على كل المخطوفين في المرحلة الأولى، بل لن نعرف كم مخطوفا حيا لا يزالون لدى "حماس". الاحتمال في أن تخرج المرحلة الثانية إلى حيز التنفيذ ويعود كل المخطوفين إلى إسرائيل في غضون 42 يوما هو صفر.
وبالتالي، فإن المستوى السياسي كائنا من سيكون، ينبغي أن يختار الاستراتيجية التالية: يقول رئيس الوزراء بشكل علني، إنه مستعد لإنهاء الحرب بشكل رسمي، وبالمقابل تعيد "حماس" كل المخطوفين، الأحياء والأموات، دفعة واحدة، في غضون وقت قصير محدد.
إذا وافق يحيى السنوار على صفقة من مرحلة واحدة سيعود كل المخطوفين إلى إسرائيل، مع كل التداعيات المعنوية والاجتماعية التي ينطوي عليها ذلك. بعد صفقة كهذه يتعين علينا أن نستخلص الدروس من الهزيمة الإستراتيجية التي تكبدناها، وأن نبني الجيش من جديد، ونخطط استراتيجيات افضل حيال "حماس" وباقي أعدائنا.
إذا رفض السنوار، فقد تتمكن الحكومة من إقناع الجمهور الإسرائيلي ودول العالم بأن لا مفر من احتلال القطاع كله من أجل التقويض النهائي لـ"دولة الإرهاب" التابعة لـ"حماس".
عن معاريف