أغبط الشعبين الإيراني واللبناني لقيادتيهما اللتين تديران معاركهما ببرود أعصاب شديد وسط صخب الدم العالي، يجمعون ويطرحون ويقسمون قبل أن يقوموا بالضرب آخذين بعين الاعتبار موازين القوى وردود الأفعال، وليس مثلنا بالاندفاع بلا حساب ولا قراءة للواقع العالمي والدولي.
للسياسة حسابات، وللسلاح أن يخضع لها وإلا ستنفلت الأمور بعواقب فادحة.
وتلك تجربة التاريخ الذي لا يعترف بالنوايا الطيبة بل بممكنات القوة، والسياسة الناجحة لا تنبني على الانفعالات والإرادة التي يمكن أن تسبب لها الانكسار بل على استراتيجيات حين تتطلب ذلك وخصوصاً في الصراعات الطويلة.
لم يكن مأزق إسرائيل مع حزب الله وليد هذه الحرب بل ظهر منذ عقود طويلة تجسد في الهروب الكبير ليلة الثلاثين من أيار العام 2000، ثم تأكد في حرب 2006 عندما فشل الجيش الإسرائيلي في دخول عشرات الأمتار في هجومه البري لكنه تحول بعد السابع من أكتوبر من خطر أمني إلى خطر وجودي إذا ما كرر الحزب فعل «حماس» في السابع من أكتوبر.
فوجئ الحزب بطوفان الأقصى ودخل في اليوم الثاني كحالة مساندة للضغط بهدف وقف الحرب على غزة، ليسير على خط رفيع وهو يحسب ألا يتسبب بدمار لبنان وينتهي بتحطيم البلاد ليضطر لتقديم تنازلات أو اتفاق وقف إطلاق للنار تصنعه الأطراف وترك غزة وحدها.
ولكن الدعم الدولي الذي تلقته إسرائيل فتح شهيتها لاستكمال القضاء على كل التهديدات التي تعيد تأكيدها في تقارير الأمن القومي مع نهاية كل عام وتضع حزب الله وسطها.
وكان السؤال ماذا لو انتهت الحرب في غزة وانتهى تلقائياً الصدام في الشمال وبقي حزب الله محتفظاً بقوته ؟ كان السؤال يبحث عن حل ولا حل إلا بتوسيع الحرب هناك.
وتصادف ذلك بوجود رجل يميني شديد الدهاء ويجيد الحسابات، وتصادف أيضاً مع انتخابات أميركية ووجود الحزب الديمقراطي الطامح لولاية رئاسية ثانية، هذا الحزب الذي عاش نتنياهو قدراً من الاختلاف مع كل مؤسساته ولم يشعر من كانوا في البيت الأبيض من الديمقراطيين (كلينتون وأوباما) بالحرج في التعبير عن ذلك في مذكراتهم.
وفي نفس الوقت يدغدغ نتنياهو المرشح الجمهوري الصديق الصغير الجاهل في علوم السياسة الذي لا يتورع عن إعلان ولائه لإسرائيل بشكل مبتذل في كل مناسبة، وبالتجربة كان مستعداً لحمل مشروع يضعه له نتنياهو كما حدث في إعلانه للقدس عاصمة لإسرائيل أو صفقة القرن البائسة.
للمعركة درجة حرارة وطرفان أحدهما أراد إشعال المنطقة والإقليم وتشطيب كل الملفات وجر القوة الأميركية الكاسحة لتجريف لبنان والحزب ومنها لطهران، وإنهاء كل التهديدات وإعادة إسرائيل سيدة للشرق الأوسط وبين الأقدام تكون إسرائيل قد سحقت الملف الفلسطيني، والطرف الآخر يعرف ذلك ويتحرك على خيط رفيع بين معركة محسوبة يسعى جاهداً لعدم الانجرار لرفع مستوى النار.
في إطار السعي لتصعيد الأحداث باتجاه الحرب الإقليمية التي تريدها قامت إسرائيل نهاية تموز الماضي بعمليتي اغتيال كبيرتين جداً الأولى لرئيس أركان حزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية والثانية لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران. وهو ما يشكل أكبر إهانة واستفزازاً للمحور وما يكفي لإطلاق صافرة الحرب بعد رد إيران والحزب تكون إسرائيل كمن يذهب للحرب كمدافعة عن نفسها وهو السيناريو المطلوب.
ساعة الانتخابات الأميركية تتكتك في تل أبيب التي باتت تدرك أن موقف واشنطن سيكون أكثر قوة بعدها، وستفقد إسرائيل ورقة الضعف الحالي ونقطة قوتها لذا تعمل بما تملك من قوة خلال ما تبقى من الوقت «شهر ونصف» لذا كثفت ضرباتها بشكل مسعور على الحزب وبكل الوسائل بالتكنولوجيا وبالقنابل وبالمعلومات لفتح الحرب.
هي الفرصة الذهبية بالنسبة لإسرائيل ومن الصعب أن تتكرر وتنحسر مع مرور الوقت وتكسب بالحرب بكل الظروف حيث تضع الحزب الديمقراطي أمام خيارات صعبة، فإما أن يندفع بكل قوة للاشتراك مرغماً في حرب لم يكن يريدها في هذا الوقت بالذات بل بذل كل جهده منذ عام لعدم إشعالها وبالتالي يتم جره لسحق خصوم إسرائيل، أما إذا تلكأ وهذا صعب تصوره فإن ذلك يعني تمهيد الطريق لترامب الشريك الوفي ليتكفل بالمهمة بعد أن توفرت المناخات وظهر هذا القدر من التهديد وأصبح الوضع الدولي مهيئاً.
هذا ربما ما يفسر الردود المحدودة والمحسوبة من قبل الأطراف التي تتلقى الضربات، وتحديداً حزب الله في محاولة لتمرير الشهر ونصف الشهر القادمين محافظاً على نفس الوتيرة ونفس المعادلة ومستوى النار. فحالة المراوحة رغم ثمنها عليه ليست مريحة لإسرائيل ويعتبرها إنجازاً يمنع عودة سكان الشمال ويحافظ على الارتباط مع غزة وأفضل من مغامرة تحرق الأخضر واليابس. هل كانت تلك هي الحسبة ؟ ربما رغم أنها معضلة للحزب.
الناطق باسم الجيش الإسرائيلي يقول: «نعلم ما نفعل وعلى دراية أن ذلك سيؤول لحرب شاملة» أما المراسل العسكري لإذاعة الجيش فينقل عن القيادة السياسية قولها: «تسلسل التصرفات الإسرائيلية سيجعل من الصعب على نصر الله عدم التصعيد».
أما نتنياهو فيتحدث عن بدء تغيير الشرق الأوسط، ذلك هو بيت القصيد.