عندما شنت إسرائيل حربها العدوانية البربرية على غزة في أعقاب هجوم حركة «حماس» الشرس على تجمعات غلاف غزة الإسرائيلية، أصبح «حزب الله» وتحالف إيران في المنطقة والمسمى «محور المقاومة» في وضع صعب للغاية. فمن جهة هم لم يكونوا جزءاً من الحرب وربما لم يعلموا أصلاً بهجوم «حماس» قبل وقوعه، ومن جهة أخرى لا يمكنهم التخلي عن «حماس» وتركها وحدها مع فصائل المقاومة الأخرى في غزة تواجه قوات الاحتلال التي بدأت حرب إبادة جماعية في غزة. وكان لا بد من التدخل لإثبات وحدة الجبهات ووحدة أطراف «المحور». فاختار «حزب الله» صيغة للمشاركة في الجهد الحربي من لبنان تحت مسمى «جبهة إسناد» وليس جبهة حرب. وكانت الفكرة من فتح هذه الجبهة هو مشاغلة القوات الإسرائيلية وتخفيف الضغط عن الفصائل في غزة. وكان تبادل إطلاق النار في الشمال عبارة عن عمليات محسوبة تبقي الأمور تحت السيطرة ولا تزيد عن مستوى حرب استنزاف. وقد ربط الحزب هذه العملية بالحرب في غزة.
الحكومة الإسرائيلية كانت طوال الوقت تركز على الحرب في غزة وتتعامل مع الاستنزاف في الشمال باعتباره ليس أولوية ويمكن إبقاؤه في حدود السيطرة طالما أن إيران لا تريد حرباً إقليمية كبيرة. ويبدو أن إسرائيل لم تكن تريد حرباً واسعة طالما هي منغمسة بكثافة في حرب غزة، وجيشها يتنشر بقوات كبيرة هناك. وهي تدرك كذلك أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لا يريدون توسيع نطاق الحرب. ولكن الأمور بدأت في التغير مع وصول الحرب في غزة إلى مستوى المراوحة في المكان. فلم تعد هناك أهداف قابلة للتحقيق مع الاستمرار في هذه الحرب، وخاصة القضاء على «حماس» أو تحرير المحتجزين الإسرائيليين. وبالتالي كان على الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو الذهاب إلى صفقة إن كان يريد الإفراج عن الأسرى والمحتجزين مع حركة «حماس». وهذا يعني أن إسرائيل يجب أن تدفع ثمناً ليس فقط بالإفراج عن أسرى فلسطينيين بأعداد كبيرة ومن ذوي الوزن الثقيل، بل كذلك بالتسليم بإنهاء الحرب دون إنجاز النصر الشامل الذي تحدث عنه نتنياهو، ما قد يقود إلى نهاية الأخير وخروجه من الحلبة السياسية.
ما آلت إليه الحرب في غزة دفع نتنياهو للبحث عن فتح جبهة أخرى، وعملياً الجبهة قائمة على نار مسيطر عليها، لكنها تثقل على إسرائيل بسبب وجود أكثر من 80 ألف إسرائيلي مهجر من منطلقة الشمال. كما أنه لا توجد ضمانة بألا تتحول الجبهة المضبوطة إلى حرب واسعة. ويرى نتنياهو الذي يريد الهروب من استحقاق صفقة التبادل، أن توسيع نطاق الحرب في الشمال فرصة للقضاء على تهديد «حزب الله» من خلال إضعاف قدراته بدرجة كبيرة وفرض معادلة جديدة مع الحزب على الحدود الشمالية. فبعد تجربة «حماس» لم يعد بإمكان إسرائيل الركون إلى وضع يحتمل الانفجار. وفي الحقيقة استغل نتنياهو رغبة الجيش الإسرائيلي في الذهاب شمالاً بعد استنفاد الحرب في غزة، وعدم وجود معارضة إسرائيلية لمعالجة الخطر الذي يمثله «حزب الله» لزيادة وتيرة الحرب على الجبهة اللبنانية. وهذه مغامرة يبدو أنها محسوبة من قبل إسرائيل التي باغتت أجهزتها الحزب بتصفية عدد من قادته العسكريين المؤثرين وبعملية تفجيرات واسعة النطاق في أجهزة الاتصال والأجهزة الإلكترونية التي استخدمها أعضاء وقادة «حزب الله»، ثم عمليات القصف الواسعة التي شملت مختلف مناطق لبنان في الجنوب وبيروت والبقاع.
الحرب على الجبهة الشمالية تتصاعد بصورة كبيرة مع سقوط عدد كبير من اللبنانيين تجاوز الألفين وأربعمائة مواطن بين شهيد وجريح حتى الأمس. وسقوط عدد كبير من الصواريخ التي أطلقها «حزب الله» والتي وصلت إلى مناطق عكا وحيفا حتى تل أبيب الكبرى بما في ذلك بعض مناطق في الضفة الغربية. وهناك احتمال لتهجير واسع للسكان في الجليل والشمال كما حصلت عمليات نزوح كبيرة للمواطنين في جنوب لبنان نحو الشمال. ويمكن أن تتسع إلى مستوى حرب شاملة، وهذا قد يؤدي إلى انزلاقها لحرب إقليمية. وهناك تهديد إيراني واضح بعدم ترك «حزب الله» لوحده في هذه الحرب، على الرغم من الرسالة المعتدلة التي وجهها الرئيس الإيراني مسعود بزكشيان في خطابه في الأمم المتحدة الذي قال فيه إن إيران لا تريد الحرب والمواجهة مع أحد. ومن المؤكد أن إيران لن تسمح بسقوط «حزب الله» تماماً بعد الضربة القاصمة التي تعرضت لها حركة «حماس» في قطاع غزة.
من الواضح أن إسرائيل قررت الذهاب نحو تصعيد خطير قد تبدو بدايته معروفة ولكن لا أحد يستطيع التنبؤ بنهايته، خصوصاً وأن «حزب الله» يتوقع أن تتدهور الأمور ويتعرض لضربات موجعة. وبعد ما حصل في غزة لا بد أنه قد أخذ كل الاحتمالات بالحسبان، حتى لو نجحت إسرائيل بعملية اختراق واسعة واستطاعت القضاء على عدد لا يستهان به من قياداته، ولكن الحزب قوي ومتماسك ويحظى بدعم هائل من إيران، وبالتالي أي نقص يمكن أن تعوضه إيران. ويمكن للحرب أن تطول وتتحول إلى حرب مؤلمة ومكلفة لإسرائيل، خاصة إذا لم تستطع إعادة النازحين من الشمال بسرعة إلى بيوتهم كما أعلنت هذا باعتباره هدفاً أساسياً للحرب.