طوال العام الماضي انتهج النظام السوري سياسة النأي بالنفس تماماً عن الموضوع الفلسطيني، أو عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، مع تجاهله التزام ما يسمى استراتيجية "وحدة الساحات"، التي يتبناها محور "المقاومة والممانعة"، بقيادة النظام الإيراني، عبر "الحرس الثوري الإيراني"، والميليشيات التابعة له.
لكن ما لفت الانتباه أكثر، أخيراً، هو التزام النظام السياسة نفسها حيال الحرب التي تشنّها إسرائيل ضد "حزب الله" في لبنان، والذي يعتبر أحد أهم الميليشيات التي تشتغل ذراعاً إقليمية لإيران، في سوريا، مع "فاطميون" "وزينبيون"، و"عصائب الحق"، و"كتائب أبو الفضل العباس"...الخ.
بيد أن سلوك "النأي بالنفس" الذي يتبناه النظام السوري ليس جديداً، إذ إنه نأى بنفسه عن اعتداءات إسرائيل المتكررة على أراضيه، والتي بلغت مئات الغارات الجوية وأعمال القصف والاغتيالات، طوال العقد الماضي، والتي تكثفت منذ أعوام، لكنها بلغت ذروتها طوال العام الماضي، على خلفية الحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، بحيث باتت بمثابة عادة أسبوعية.
يمكن تفسير تلك السياسة بأنها نتاج لرؤية النظام لذاته كممثل لسوريا، الأرض والشعب والتاريخ والمكانة، وأن سلامة سوريا تتأتّى من سلامته، بمعنى احتفاظه بسلطته على الأرض والشعب السوريين.
أيضاً، ثمة تفسير آخر قريب لتلك السياسة التي من ضمنها الابتعاد عن حلفائه، وهو سعيه لتطبيع وضعه، على الصعيدين العربي والدولي، وهو استحقاق، بالنسبة إليه، يحظى بالأولوية على كل ما عداه من سياسات والتزامات وتحالفات.
طبعاً، ثمة مأزق للنظام في انتهاج خيار كهذا، إذ يبدو أن من الصعب عليه تحقيق استدارة كاملة، دفعة واحدة، ما يفترض منه العمل بطريقة مزدوجة، أو مداورة، يتمثل أحد أوجهها بسماحه بوجود الميليشيات التابعة لإيران على الأرض السورية، وتالياً التزام اللامبالاة بهجماتها ضد إسرائيل. فيما يتمثل وجهها الآخر بسكوته، أو نأيه بنفسه، عن استهداف إسرائيل تلك الميليشيات ومواقعها وقوافل تسليحها؛ وهي سياسة معتمدة منذ سنوات، تحت لافتة: "الاحتفاظ بالرد في المكان والزمان المناسبين".
من جانب آخر، فإن النظام في هذا الوضع الصعب لا يناور، بل هو يلعب في الهامش المتاح له، بين السياستين الروسية والإيرانية، كما بين مكانته كصاحب السيادة في الجغرافيا السورية، كما هو مفترض، وبين تخفّفه من تلك السيادة لمصلحة القوى التي دعمت بقائه في الفترة الماضية.
يمكن أن نضيف أيضاً أن النظام الذي ينظر إلى القطبين الروسي والإيراني في الأرض السورية، في هذا الوضع المعقد، كقوى تزاحمه في أرضه، وفي سيادته، لا يريد القيام بأي خطوة قد تستفز إسرائيل التي أسهمت في التأثير في الخيارات السياسية الأميركية إزاء سوريا، طوال العقد الماضي، كما أنه في ذلك يقدم أيضاً نوعاً من سياسة تدعم مسعى الأنظمة العربية التي تريد التطبيع معه، أو لقاءه في منتصف الطريق، لإخراجه من تحت العباءة الإيرانية.
لنلاحظ أن إسرائيل تخوض حرب إبادة وحشية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة منذ عام، ذهب ضحيتها حوالي ربع مليون، بين قتلى وجرحى وأسرى ومفقودين تحت الركام، كما نجم عنها تدمير قطاع غزة، بعمرانه وبناه التحتية، وأنها صعدت أخيراً من حربها في لبنان، باستهداف بيروت ذاتها والبقاع، إضافة إلى تحويلها الجنوب إلى مناطق خالية من السكان ومدمرة، على مثال غزة.
إسرائيل تلك صعّدت في الأشهر الماضية كثيراً من استهدافها الأراضي السورية، فهي تعمدت قصف القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، وقتلت أحد أهم أركان "الحرس الثوري الإيراني" في تلك الغارة (نيسان/أبريل 2024)، وأخيرا (10/9/2024) قامت، عبر قوات برية وجوية، باستهداف منشأة عسكرية خاصة في مصياف، في عملية غير مسبوقة، ما أدى إلى مصرع 27 شخصاً، بين مدنيين وعسكريين، سوريين وإيرانيين ولبنانيين.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد استهدفت إسرائيل سوريا، منذ عملية "طوفان الأقصى" 109 مرات، 76 منها جوية و33 برية، دمرت خلالها 221 هدفاً بين مستودعات للأسلحة والذخائر ومقار ومراكز وآليات، وتسببت تلك الضربات بمقتل 287 من العسكريين وإصابة 187 آخرين؛ من دون أن يبدر من النظام أي رد؛ باستثناء التذكير، أحياناً، بأنه يضيف ذلك إلى رصيده المتعلق بالزمان والمكان المناسبين.
يستنتج من ذلك أن النظام السوري بات ينأى بنفسه عن معادلات الصراع مع إسرائيل، المكلفة بكل وجوهها، والتي تتعارض مع مصالحه وأولوياته، وسواء تعلق الأمر بالفلسطينيين، أم بـ"الحلفاء"، أي إيران و"حزب الله" وبقية جماعة "المقاومة والممانعة"، لأن كل ذلك يتعارض مع بقاء سوريا كما يراها، ويضر بمحاولات تكيفها أو تطبيعها مع النظامين العربي والدولي، اللذين يتشكلان أمامنا من وراء حرب إسرائيل المتوحشة في غزة وفي لبنان.