مقالات مختارة

انتقال إسرائيل من «الحرب الثقافية» إلى «الحرب الأهلية» | نمرود ألوني

 

 

 

لا نعرف كيف ستنتهي الحرب الطويلة والصادمة مع الأعداء على مختلف الجبهات، غزة، "حزب الله"، إيران، "الحوثيين"، وربما أيضاً الضفة الغربية. ولكن قد تكون هناك حرب مدمرة أكثر منها، الحرب التي ستأتي بعدها، الحرب الإسرائيلية الأهلية الداخلية. هذه حرب كان في السابق مثلها، بين المتعصبين والمعتدلين، وقد جلبت نتائج كارثية على شعب إسرائيل، وهي في الوضع الحالي تجسد تصعيد الحرب الثقافية بين المعسكر الوطني المتطرف المسيحاني وبين المعسكر الديمقراطي.
ثمة سلالة مشابهة للحرب الثقافية توجد في العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة أيضاً في دول أخرى. ولكن في معظمها لم تصل الأمور إلى درجة تهديد حقيقي بحرب أهلية. في بولندا، هنغاريا، هولندا، ألمانيا وفرنسا، تطورت معسكرات سياسية وطنية متطرفة ومحافظة، لا سيما على خلفية الهجرة الجماعية من إفريقيا والشرق الأوسط، حيث قامت بتحدي النظم الثقافية للديمقراطية الحديثة، وهي تتميز بالعنصرية والعنف تجاه الأجانب. الحالة الأكثر شبهاً بإسرائيل من حيث الاستقطاب السياسي الصاخب والعنيف على خلفية الحرب الثقافية هي الولايات المتحدة. أيضاً يتناول الخطاب العام هناك في السنوات الأخيرة الخطر الفوري للحرب الأهلية، بين معسكر ترامب والإفنغلستيين وبين المعسكر الديمقراطي – التقدمي.
التشابه بين إسرائيل والولايات المتحدة يشمل ليس فقط الخطر الفوري لاندلاع حرب أهلية، بل أيضاً الأسس الثقافية، التي تنعكس على كل مجالات الحياة، لجميع المعسكرات المستقطبة. لا يدور الحديث الآن عن معسكرات متماهية مثل اليمين أمام اليسار (في إسرائيل)، أو جمهوريين أمام ديمقراطيين (في الولايات المتحدة)، بل يدور الحديث عن ورم وحشي، شعبوي، مستبد (هنا وهناك)، تطور من داخل اليمين التقليدي، وهو يحتفل بتخريب السياسة العقلانية ومعايير الثقافة السائدة، ويوجد أمامه معسكر متنوع من التقدميين والمحافظين، المخلص للثقافة الديمقراطية والليبرالية وآداب ضبط النفس، ويحتفظ بمعايير المنطق والاستقامة.
في إسرائيل، مثلاً، عبّر أعضاء بارزون في اليمين التقليدي مثل مناحين بيغن وإسحق شامير ودان مريدور وليمور لفنات عن الاشمئزاز من الأفكار العنصرية لمئير كهانا، وأعطوا أهمية لثقافة التعليم والأخلاق، وعرفوا كيف يناضلون من أجل سيادة القانون المدني والمساواتي، ومن أجل النظام الديمقراطي واستقلالية المحكمة العليا. في هذه الأيام مع التضخم الوحشي لمعسكر اليمين المتطرف، الذي يسمى الحريدي الوطني والبيبي، فإن فكرة تفوق اليهود، وشرعية ذبح الفلسطينيين، والمبادرة إلى تصفية استقلالية المحكمة العليا، والاستخفاف بالأكاديميا وسلطة القانون، والدفع قدماً بالإكراه الديني وسلطة الشريعة، وإقصاء النساء والعرب، وتعيينات فاسدة لمقربين في مناصب رفيعة، ونظريات المؤامرة الخبيثة حول خيانة الوطن، وعبادة الزعيم وعائلته، والمبادرة إلى محو غزة وتخليد نظام الأبارتهايد في الضفة الغربية، كل تلك يتم عرضها علناً، بل يتم تبنيها كأقوال وأفعال مشروعة في نقاشات الحكومة وفي سياستها.
هكذا هي الحال أيضاً في أميركا. فهناك تم احتلال الحزب الجمهوري من خلال روح ترامب، والمحافظة التقليدية والليبرالية الاقتصادية استبدلت بها العدمية الشعبوية، وثقافة الكذب والتشهير (مثل التآمر على سرقة نتائج الانتخابات)، والعنصرية والتحريض، واحتقار القانون وقواعد الديمقراطية، والعبادة العمياء للزعيم باعتباره فوق القانون، والعنف كطريقة عمل سياسية (بما في ذلك تهديد القضاة والسيطرة العنيفة على تلة الكابيتول)، والتوق إلى الدكتاتورية المسيحية - الإفنغلستية وتفوق البيض. هذا هو المكان المناسب لتحطيم الكذبة الكبيرة، التي تقول إنه توجد أمامنا حرب ثقافية متزايدة بين تطرف اليمين وتطرف اليسار؛ فمنذ عشرات السنين لا يوجد في إسرائيل يسار متطرف. أولاً، حتى اليسار السياسي المتمثل في "ميرتس" كان قوياً جداً في توجهه الديمقراطي والصهيوني وغير العنيف. ثانياً، معسكر الاحتجاج في هذه الأيام، الذي يعمل على إسقاط الحكومة بسبب الانقلاب النظامي والتخلي عن المخطوفين، يشمل أطيافاً سياسية كثيرة تنتظم حول محور الوطنية الصهيونية والديمقراطية. ولا يوجد شيء غريب أكثر من التطرف أو الفوضوية، وهي وصفة تحاول آلة السم والكذب إلصاقها به. ثالثاً، أعمال القتل والإرهاب ومظاهر العنف السياسي المناهض للديمقراطية توجد فقط في اليمين المتطرف، الحريدي القومي – البيبي، ولا يوجد لها مثيل في معسكر الاحتجاج الديمقراطي الليبرالي: لا يوجد اغتيال لرئيس وزراء أو مذابح، أو عمليات إحراق وأعمال فتك بالسكان الموسومين بالدونية، ولا يوجد إحراق لمؤسسات دينية أو محاولات لتدمير مؤسسات الديمقراطية ونشاطاتها المستقلة، ولا توجد هجمات متواترة بعنف جسدي وغاز الفلفل ضد معارضين سياسيين، ولا تهديد قضاة أو مدعين عامين أو عنف ضد المراسلين وضباط الجيش، أو تهديد مؤسسات ثقافية وأكاديمية بتفجير أحداث والمسّ بنشاطاتها اليومية.
في المفاهيم الجديدة، فإن حربنا الثقافية يمكن وصفها وتفسيرها بوساطة ثلاث ميزات رئيسية. الأولى، مصدر السلطة. ففي اليمين المسيحاني هو إلهي ووطني، وهو مصدر الصلاحية الذي يعطي الشعور بالتفوق المطلق، والشرعية لقمع سياسي وديني والمطالبة بحقوق زائدة، سواء بالنسبة للشعوب الأخرى أو بالنسبة للعلمانيين. في المعسكر الديمقراطي – الليبرالي السلطة هي إنسانية، مع التأكيد على مساواة قيمة الإنسان والثقافة الديمقراطية والاعتماد على الإنجازات العلمية والأخلاقية للإنسانية.
الميزة الثانية هي النظرة إلى القوة. في اليمين المسيحاني يتماهون مع القوة لإخضاع الآخرين والإقصاء الديني القومي. في المعسكر الديمقراطي – الليبرالي هي قوة ضبط النفس والتوازن والكوابح من أجل السماح بوجود ميثاق اجتماعي عادل يتمثل بـ"عشْ ودعْ غيرك يعش"، مع المسؤولية عن حماية الصالح العام.
الميزة الأخيرة هي الرؤيا السياسية. في المعسكر الحريدي الوطني – البيبي، فإن ثمة حاجة هي دولة مستبدة أو دكتاتورية، تلغي استقلالية القضاء المدني وتعطي مكانة رئيسية للقضاء الديني، إلى جانب تسوية قانونية لثلاث طبقات رسمية وهي اليهود المدنيون، العرب الإسرائيليون كمواطنين دون، والفلسطينيون في "المناطق" كرعايا خاضعين. في المعسكر الديمقراطي – الليبرالي، فإن الرؤيا السياسية تشمل الديمقراطية التعددية واليهودية الإنسانية التي تضمن المساواة في الجنس والمساواة المدنية وحماية استقلالية منظومة القضاء والإعلام والأكاديميا والتعليم، إلى جانب السعي إلى الانفصال عن الفلسطينيين في إطار اتفاق سلام برعاية الدول العظمى والدول العربية المعتدلة، وضمن ذلك المساعدة على إقامة الدولة الفلسطينية السيادية والديمقراطية.
بخصوص التصعيد في الحرب الثقافية، يجب عدم الخطأ والذهاب كأسرى وراء الرغبة في أن هذا التوجه سيتم وقفه فقط، لأنه كما يبدو في هذه الأثناء ما زال النظام الاجتماعي تحت السيطرة. في السنتين الأخيرتين شاهدنا تدهوراً دراماتيكياً سريعاً، لم يخطر ببال أي أحد حتى في الكوابيس الفظيعة جداً. بدأ هذا بحكومة مع أجندة كهانية تعمل على تحويل إسرائيل من ديمقراطية – ليبرالية إلى دكتاتورية – دينية مستبدة، مروراً بالكارثة الكبيرة لهجوم "حماس"، ومئات القتلى والمخطوفين وضياع الوجود الطبيعي في المنطقة الشمالية الذي يتمثل بعشرات آلاف المخلين، وانتهاء بحلقة نار إيران التي تشل إسرائيل، والعزلة الدولية وتقويض أسس الاقتصاد. وحتى لو كان القلب والعقل يرفضان تخيل ذلك، إلا أنه من المرجح أن الأسوأ ما زال ينتظرنا.
شبيهاً بالتنظيم المسلح في الولايات المتحدة لمجموعات تفوق البيض، والأنواع الأخرى من كتائب ترامب التي تطالب بتدمير أنظمة الديمقراطية بالوسائل العنيفة، أيضاً عندنا تنتظم وتتبلور مجموعات التفوق اليهودي، العنصرية، العنيفة، والمسلحة، من أجل تقويض نظام الديمقراطية القائم واستبدال خليط من الفاشية – المسيحانية أو الأصولية – الفاشية به. "لافاميليا" المقدسية، و"شبيبة التلال"، الذين يرتكبون المذابح ويشعلون الحرائق في "المناطق"، الدعوة إلى تنفيذ إبادة جماعية وتطهير عرقي في قطاع غزة، والسيطرة العنيفة على المساعدات الإنسانية، ومهاجمة رجال المؤسسة الأمنية، والزيارات غير القانونية في الحرم، والاقتحام العنيف في معسكر سديه تيمان، ومسيرة الإعلام في البلدة القديمة في القدس المليئة بالكراهية للعرب، والدعوة إلى الانتقام، والدعوة إلى اعتقال رجال تعليم وأكاديميا من المعارضين للنظام، ونشاطات "لاهافا" للحفاظ على طهارة العرق، وبالطبع شرطة بن غفير السياسية – كل هؤلاء أصبحوا منذ زمن لا ينتظرون على الخط، بل صاروا لاعبين ناجعين ومسلحين في الملعب السياسي.
مع صافرة الانتهاء لحرب غزة والحرب مع "حزب الله"، وصافرة البداية لجولة الانتخابات القادمة، آمل أن يخيب ظني، فإن الحرب الأكثر فظاعة من بينها جميعاً ستندلع. حرب كان عندنا مثلها في السابق، وقد دمرت استقلال إسرائيل. حرب المتعصبين ضد المعتدلين، الحرب الأهلية الإسرائيلية.

عن هآرتس

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...