بعد عام من التطاحن على نار هادئة نسبياً على الحدود اللبنانية، انتقلت إسرائيل، مؤخراً، من النهج المستند إلى الرد، إلى استراتيجية مبادِرة ومفاجِئة. أمّا النجاحات، فقد كانت على قدر الجهود: ضرب قاسٍ ومسبب للشلل، جاء من العدم، فأصاب آلاف ناشطي التنظيم من حَمَلَةِ أجهزة الاستدعاء والاتصال اللاسلكي، وتحييد آلاف الصواريخ والمقذوفات المخبأة داخل المنازل المدنية في القرى، والموجهة نحو إسرائيل، عن طريق الجو. ثم جاءت الذروة؛ اغتيال حسن نصر الله في الحصن القيادي تحت الأرض التابع لـ "حزب الله"، بعد سلسلة من عمليات الاغتيال التي "جزّت" رؤوس القيادة العسكرية للتنظيم.
إلى أين ستكون وجهتنا من هذه النقطة؟ هل نحن ذاهبون إلى حرب إقليمية، أم إلى احتواء الحدث، أو ربما إلى استثمار هذا النجاح في إنهاء الحرب؟
تُعد التطورات الأخيرة نقطة تحول حربية على سبع جبهات، إذ تُخاض الحرب بأغلبها بوتيرة منخفضة منذ نحو عام. وهناك أربعة عناصر ستحسم مصير الحرب وترسيم مستقبل الإقليم على مدار السنوات المقبلة: إسرائيل، ثم "حزب الله،" ثم إيران، فالولايات المتحدة.
تحديث أهداف الحرب
على إسرائيل أن تقرر إذا ما كان عليها التمسك بهدف إعادة سكان الشمال بأمان، أو المضي نحو هدف أكثر طموحاً، يتمثل في إسقاط "حزب الله"، كما قال رئيس الحكومة في خطابه أمام الأمم المتحدة، بل أيضاً ربما استمرار "تهشيم الحلقة النارية" التي حاصرتنا إيران بها، وبعد ذلك البدء بالعمل ضد الخلية التي تدير هذا كله في دمشق.
مخطط سياسي
إذا قررت إسرائيل التمسك بالهدف الذي حددته قبل أسبوعين (إعادة سكان الشمال إلى منازلهم بأمان)، فإن عليها أن تسمح للولايات المتحدة بأن تقودها نحو معاهدة مع لبنان تضمن تطبيقاً مختلفاً تماماً لقرارَي مجلس الأمن رقم 1559 و1701؛ بحيث يستند التطبيق هذه المرة إلى منظومات رقابة وإنفاذ أقوى كثيراً، وإلى إغلاق الحدود السورية - اللبنانية، ومنع عمليات تهريب السلاح. كما يضمن نزعاً تاماً للسلاح في المنطقة الواقعة جنوب خط الليطاني، والتعامل مع هذه المطالب بصفتها مطالب لا تقبل التفاوض أو المهادنة، وتوفر لإسرائيل شرعية العمل ضد تنامي العمل العسكري في لبنان، كما فعلت في سورية قبل الحرب.
الانسحاب في أوج المعركة
لو كنا قد أنهينا حرب لبنان الثانية سنة 2006 بعد الإغارة على الضاحية لكانت نتائج الحرب مختلفة تماماً. وعلى إسرائيل الآن أن تضع شروطاً لإنهاء الحرب، وتنهيها على الجبهتين الشمالية والجنوبية.
اجتياح بري واسع النطاق
سيكون الأمر خطأً يستغله "حزب الله". وفي المقابل، فإن على القرى التي تمثل البيئة الداعمة للحزب على الحدود أن تدفع الثمن الأقصى، ويجب تنظيف هذه القرى من شبكات "الإرهاب"، سواء من ناحية الإغارات البرية، أو الهجمات الجوية، ولاحقاً، بوساطة قوة دولية تملك صلاحيات كبرى، ويتم نشرها على الحدود.
حرب إقليمية
من يحسم في هذا الشأن هو إيران، وقد كان نصر الله هو الرقم 2 في معادلة المحور، كما كان هو "قلب المحور النابض"، وقد استثمر الإيرانيون مليارات الدولارات في حزبه، بصفته الجهة العسكرية الأهم في المحور المناهض لإسرائيل. ومن المتوقع أن يأخذ الإيرانيون وقتهم للتفكير، لكن إمكان قرارهم ضرب إسرائيل هو أمر قائم وحقيقي، وعلينا أن نهتم بألاّ يكون الرد الإيراني قفزة نحو القنبلة النووية.
الولايات المتحدة
هناك مشاعر مختلطة؛ ففي واشنطن يسود غضب مكبوت ضد رئيس الحكومة، الذي رد مقترح الإدارة الأميركية لوقف إطلاق النار، وهناك شكوك لدى الإدارة بأن نتنياهو يعمل من أجل تقديم العون إلى ترامب في الانتخابات.
وفي المقابل، هناك دم أميركي كثير على يدَي حسن نصر الله، ويُعد ضرْب هذا التنظيم خطوة مهمة من أجل إنشاء تغيير يؤدي إلى التوازن في الشرق الأوسط لمصلحة المعسكر المعتدل الذي تقف الولايات المتحدة على رأسه. ويتمثل الهدف الرئيسي للإدارة الأميركية، الآن، في الحؤول دون نشوب حرب إقليمية قبل الانتخابات، ولذا، فمن المقبول الاعتقاد أن هذه الإدارة سترسل، للمرة الثانية، رسالة بصيغة "Don’t" إلى الإيرانيين، وتكثف الحضور العسكري الأميركي في الإقليم.
وعلى إسرائيل أيضاً أن تتذكر أن الولايات المتحدة هي حليفتها الأكبر، بل أيضاً في بعض الأحيان حليفتها الوحيدة، وأننا في حاجة إليها في مجلس الأمن، وفي توفير السلاح، وفي ردع إيران من أجل إنهاء ما يحدث بطريقة تضمن المحافظة على الإنجاز الاستراتيجي الإسرائيلي لوقت طويل.
ومن الملائم التوصل إلى حالة من التنسيق مع الأميركيين بشأن سيناريوهات إنهاء المعركة، ومنظومات هذا الإنهاء، التي سيكون الأميركيون هم من يقودونها.
الانفصال عن السنوار؟
على "حزب الله"، الآن، أن يقرر إذا ما آن الأوان للتخلي عن الصيغة التي أصر عليها نصر الله، والتي تربط جبهة الشمال بغزة، فهذا الإصرار أدى إلى حدوث كارثة لحقت برأس التنظيم، وتشير ردوده الضعيفة نسبياً حتى الآن إلى عمق الضربة التي تلقّاها، وإلى عدم قدرته على توفير رد عملياتي على القدرات الاستخبارية، والهجومية، والدفاعية الإسرائيلية.
دور الأسد هو التالي؟
في إطار فك حلقة النار الإيرانية المحيطة بإسرائيل، علينا التفكير في ضرب نظام الأسد، الذي مثّل الجسر الأساسي للإمدادات العسكرية وتنامي "حزب الله".
وعلى الأسد أن يختار الآن إذا ما كان يريد مواصلة العمل في خدمة الإيرانيين، ليعرّض بذلك بقاءه للخطر، أم إن عليه أن يغير سلوكه، ويغلق الحدود السورية أمام عمليات تهريب السلاح الإيراني. كما أن إسرائيل لديها أيضاً "فاتورة مفتوحة" مع الحوثيين في اليمن، والميليشيات في العراق.
العودة إلى المنابع
على إسرائيل، بعكس ما تصرفت به خلال العام الماضي، أن تعود إلى أسس تصورها الأمني الكلاسيكي: الحروب القصيرة، والحسم الواضح، وعدم التنازل في مسألة تنامي جيوش العدو على حدودها.
سيكون النصر حليفنا في الشمال إذا تصرفنا وفقاً للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، بعكس هذا الاستثمار الكبير في حرب غزة، وتلك الأثمان الهائلة التي تدفعها إسرائيل هناك اليوم، وهذه الأثمان ظهرت، على سبيل المثال، في خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل (يوم الجمعة الماضي) من جانب "موديز".
تحرير المختطَفين
لا يزال هذا هو هدفنا الأعلى، وواجبنا الأخلاقي اليوم، أكثر من أي وقت مضى. اليوم: ضعفت ركائز الادعاء بأن وقف الحرب سيضر بالردع الإسرائيلي، وسيؤدي إلى وقوع سيناريو يشبه 7 تشرين الأول في الشمال أو الجنوب. كما أن ادعاء أن إسرائيل لن تعود قادرة على العودة إلى محور فيلادلفيا نتيجة الضغط الدولي المكثف هو ادعاء غير صحيح كما ثبت.
وبعد تصفية قيادة حزب الله و"حماس"، والعملية في مصياف في سورية، والغارة على مرفأ الحديدة في اليمن، عادت إسرائيل مجدداً لتظهر كقوة إقليمية كبرى، ومن شأنها أن تعود إلى مكانها بصفتها قوة عظمى قادرة على التوصل إلى اتفاق يضمن استعادة الأسرى، حتى لو أتاح ذلك لحركة "حماس" الحصول على إنجازات معينة ومؤقتة ويمكن سحبها.
شعب إسرائيل لا يخاف من الطريق الطويل، وخصوصاً بعد أن أثبت أن يده هي العليا.
عن "N12"