هناك توافقٌ بين مكونات الفكر الصهيو-أمريكي، إسرائيل والولايات المتحدة على ضرورة إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالحهما الاستراتيجية، وهو ما أشرت له بمقالات سابقة. وهو ما يتضح اليوم عند الحديث عن ما يسمى بإسرائيل الكبرى كنواة لهذا المشروع بتوسعة رقعة إسرائيل القائمة دون حدود معلنة، من خط فيلادلفي حتى الليطاني ومناطق من شرق نهر الأردن بالمملكة مروراً بجنوب غرب سوريا وربما أكثر.
فقد كان نتنياهو قبل أيام يتحدث في هيئة الأمم في قاعة شبه فارغة انسحب منها معظم ممثلي دول العالم، وكأنه لا يمثل دولة إسرائيل بل كرئيس لحكومة كل العالم وكحاخام أكبر يكرر ما جاء بالتوراة ويحدد خرائط المنطقة بل والعالم الذي يريده كزعيم "لشعب الله المختار" و "لقوى الخير" بالعالم، ويدوس على كل القرارات الدولية في مجلس الأمن وحتى الصادرة عن الجمعية العامة ويتهم العالم بمعاداة السامية ومعاداة الضحية الوحيدة بالتاريخ بل حتى بمعاداة أسس الأمن والسلم العالمين الذي يرى هو في نفسه الحريص الوحيد عليها في مواجهة "قوى الشر"، ويعلن بذلك بدء عملية تغير وجه الشرق الأوسط .
ما يساعد نتنياهو على التعالي والفوقية والوقاحة هذه هو اعتماده على دعم لا متناهي من حزبي الساحة الأميركية الديمقراطي والجمهوري بالتساوي والتي تقع تحت مؤثرات مصالح الحركة الصهيونية الاقتصادية والمالية التي تسيطر على معظم مجمعات الصناعات المختلفة هنالك، وهذه هي مصيبة ووباء النظام الدولي القائم الذي يمنع بالترهيب والتخويف تحول إعلان عددٍ من الدول بالتضامن مع شعبنا إلى خطوات عملية تعاقب بها دولة الاحتلال. كما ويساعده ضعف الموقف العربي المناهض فعلا لهذه التوجهات، أمام انجرار العديد من دول العالم العربي والإسلامي إلى السياسات الأمريكية بالمنطقة بل والعمل كحلفاء أو حتى شركاء لها في تسهيل تنفيذ المشروع وكأنه مشروع يخدم مصالح شعوبنا العربية.
لكن السؤال الأساسي هو، هل بإمكانهم فعلاً تنفيذ هذا المشروع؟ لمحاولة الاجتهاد بالإجابة على ذلك، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار عدة عوامل تتلخص في قضايا عدة أهمها:
أولاً: قدرة ثقافة وقوى مقاومة هذا المشروع الاستعماري الحديث، فعلى الرغم من الضغط العسكري والسياسي المستمر وعمليات الاغتيال والضربات المتلاحقة لحركات المقاومة المسلحة وأحزابها في لبنان وفلسطين واليمن والتهديد باحتلال مناطق جديدة ومحاولات تقويض تلك القوى المختلفة، كما واستهداف التراث التاريخي الكفاحي لهذه القوى ولمنظمة التحرير باعتبارها حركة تحرر وطني ومحاصرة دور السلطة الوطنية باعتبارها المفترض كمرحلة نحو الدولة وفرض مكانة "سلطة خدمات لسكان المناطق دون سلطة " على دورها، لا تزال ثقافة وقوى المقاومة تتمتع بقاعدة دعم شعبية واسعة ومرونة تكتيكية مكنت قوى التحرر والمقاومة ومنها حزب الله هذه من الاستمرار حتى الآن رغم الضغوط السابقة والجارية حاليا بتصاعد والتي أعتقد بأنها لم تنتهي ولم تنهي دور حركات المقاومة. نجاح المشروع الأمريكي الإسرائيلي يعتمد بشكل كبير على قدرتهم على القضاء بشكل نهائي على هذه القوى وعلى كي وعي وثقافة المقاومة والتحرر الوطني لدى شعوبنا العربية ومنها شعبنا الفلسطيني كما وإثارة الأخبار والمعلومات التي تخدم مشروعهم من خلال سيطرتهم على الماكينة الإعلامية العالمية بهدف إيصالنا إلى الشعور بالهزيمة، الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن ولن يتحقق لاحقاً طالما هنالك شعوب مقهورة تسعى لحريتها وكرامتها. وهذا أمرٌ يعتمد علينا نحن وفق الكثير مما هو مطلوب منا على قاعدة استمرار كفاحنا نحو إنهاء حرب الإبادة على لبنان وغزة وإسقاط الاحتلال ووحدتنا الواسعة على قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية الوطنية السياسية.
ثانياً: الاستقرار الإقليمي، حيث إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد يتطلب استقراراً سياسياً واقتصادياً في دول رئيسية مثل العراق وسوريا ولبنان، وهي دول تعاني من حالة عدم استقرار مزمنة بحكم مؤامرة ما سمي بالربيع العربي الذي شكّل المرحلة الأولى من مخطط الشرق الأوسط الجديد. فبدون استقرارٍ إقليمي، سيكون من الصعب تنفيذ أي رؤية طويلة الأمد لإعادة تشكيل المنطقة.
ثالثاً: الدور الإيراني، حيث إيران تلعب دوراً في محاولات تعزيز مكانتها الجيوسياسية بالمنطقة وكلاعب مهم على المستوى الدولي يسعى لتحقيق مصالحه ومشروعه بالمنطقة في غياب أي مشروع عربي. فأي محاولة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط دون التعامل مع النفوذ والدور الإيراني ستواجه صعوبات كبيرة. التوترات بين الولايات المتحدة وإيران تجعل من تنفيذ المشروع أمراً معقداً، إلا في حالة تلبية مصالح إيران وطموحاتها أو على الأقل الحد الأدنى منها الذي يضمن لإيران بقائها لاعباً مهما ذو تأثير.
رابعاً: المجتمع الدولي، إن تنفيذ مشروع بهذا الحجم يتطلب دعماً أو على الأقل قبولاً ضمنياً من المجتمع الدولي. ومع تزايد الانتقادات لسياسات إسرائيل كما والولايات المتحدة في المنطقة، وخاصةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، قد تجد الولايات المتحدة وإسرائيل صعوبةً في الحصول على هذا الدعم.
خامساً: التوقيت، إن مسألة توقيت التنفيذ مهم للغاية. مع تزايد التوترات الإقليمية والعالمية، خاصة في ظل الصراع في أوكرانيا وبحر الصين وأمريكا اللاتينية وأفريقيا إلى حد ما وملفات دولية أخرى، قد يكون هناك اهتمام أكبر لدى القوى الدولية لمنع تفاقم الأمور في الشرق الأوسط.
وبالعودة إلى مسار التاريخ السياسي، نجد أن هنالك ربط للمشروع الحالي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بنتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخاصةً فيما يتعلق باتفاقيات سايكس بيكو التي رسمت حدود الدول في المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.
اتفاقيات سايكس بيكو، التي كانت جزءاً من الجهود الاستعمارية الغربية لتقسيم المنطقة وفقاً للمصالح الأوروبية تحديداً بمباركة ودعم أمريكي، أسست لنظام حدودي سياسي واقتصادي لا يعكس بالضرورة الحقائق الاجتماعية أو التاريخية لشعوب المنطقة. وبعد الحرب العالمية الثانية، ركّزت القوى الكبرى على إعادة بناء أوروبا واليابان، بينما استمرت مشاكل الشرق الأوسط بلا حلٍ جذري، وأولها وأهمها على إثر إنشاء إسرائيل كمشروع استعماري يخدم مصالح تلك القوى عام 1948 على حساب شعبنا وحقوقه التاريخية وما تلاه من صراعات وفق الأسس الاستيطانية التوسعية لهذه الدولة المارقة، عزز من الانقسام والصراع والتوتر القائم بالمنطقة منذ تلك الفترة.
المشروع الجديد للشرق الأوسط، كما يبدو اليوم، قد يكون محاولة لاستكمال ما بدأته القوى الاستعمارية في بداية القرن العشرين. ولكن هذه المرة، بالتركيز ليس فقط على إعادة تقسيم جغرافي للمنطقة، بل على إعادة تشكيل الأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية للدول بما يتناسب مع المصالح الأميركية والإسرائيلية من جانب، طالما ما زالت الهيمنة الأحادية القطب هي سمة هذا النظام الدولي رغم بدايات مظاهر إخفاقاته باعتقادي، وأيضاً بهدف محاولة احتواء نفوذ قوى مثل إيران وروسيا والصين من جانب آخر التي تحاول تنمية مصالحها بمنطقتنا والمنطقة الأوسع بالتعاون مع تجمعات دولية مثل البريكس وغيرها.
ولكن إذا تم النجاح في تنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الجديد" كما تصفه القوى الغربية وإسرائيل، فمن المؤكد أن يكون ذلك على حساب الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف لشعبنا الفلسطيني، وأبرزها الحق في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وفق مبدأ القرار الأممي 181، وهو ما لم يتحقق حتى اليوم بسبب تعقيدات النزاع ورؤية الولايات المتحدة وفق علاقتها مع الحركة الصهيونية. وإلى إيجاد "حلول" تسعى لتجاهل الحقوق الأساسية لشعبنا الفلسطيني، مثل إقامة كيان فلسطيني يطلقون عليه "اسم دولة" دون سيادة ودون حدود تتفق مع ما قبل خطوط الرابع من حزيران 1967، ودون تنفيذ القرار الأممي 194 بشأن حقوق اللاجئين ودون الحق الأساسي بتقرير المصير.
كما وإلى توسعة اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل بدون حلٍ حقيقي للقضية الفلسطينية، والذي سيتم في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد بتفوق إسرائيلي ودون أن يشمل حقوق الفلسطينيين بشكل عادل كما ذكرت. وبالتالي وفي حال نجاحهم رغم المعيقات، ستصبح القضية الفلسطينية معزولة ومهملة في سياق المصالح الأوسع في المنطقة والعالم، وهو الأمر الذي يجب أن تتركز الجهود اليوم في مقاومته بكل السبل الشعبية والقانونية والدبلوماسية والإعلامية في إطار من الوحدة الواسعة الفلسطينية وتعزيز التضامن الدولي وفق رؤية واضحة المعالم لا مكان للخوف فيها أو مجاراة السراب الأمريكي الخبيث، أو ننتظر إلى حين لا ينفع الندم أو إعادة الزمن.