بقلم: ديمتري شومسكي
منذ الكارثة في 7 تشرين الأول يدور في اوساط بقايا اليسار الاسرائيلي نقاش حاد حول "مسألة السياق": لا توجد أي علاقة سببية ملموسة لهجوم الابادة الجماعية الذي قامت بشنه المنظمة الوطنية الاسلامية الفلسطينية ضد مواطني اسرائيل – أي محاولة لتقديم مثل هذا التفسير ستصل في الحقيقة الى مستوى تبرير المذبحة.
من يؤيدون فرضية السياق يقولون إنه لا يمكن فصل العنف الجماعي لحماس ضد الاسرائيليين الابرياء عن جرائم الاحتلال الاسرائيلي، خاصة عن التجربة الفريدة التي تم اجراؤها على مليوني انسان – الحصار الاسرائيلي لقطاع غزة. في المقابل، من يرفضون فرضية السياق يقولون بأن الامر يتعلق بمحاولة ظالمة ومرفوضة اخلاقيا لاتهام الضحية، ولا توجد أي صلة بين اغتصاب النساء وقتل الاطفال وبين النضال من اجل العدالة والحرية للشعب الفلسطيني. من الممتع رؤية الى أي درجة هذا النقاش اليساري الداخلي هو نقاش مقطوع عن الروح السائدة في أعقاب 7 تشرين الاول في اوساط الاسرائيليين العاديين. ففي حين تتجادل حفنة من اليساريين حول مسألة علاقة الاحتلال في فهم اسباب المذبحة، فان معظم الاسرائيليين على قناعة بأن الاحتلال الاسرائيلي لم يكن موجوداً أبداً في يوم السبت اللعين. وكل ذلك ليس بالضرورة لأن "شعب اسرائيل لا يمكن أن يكون محتلاً في ارض اسرائيل" – المفهوم الذي يميز اليمين المتدين – بل لأنه حسب اغلبية الاسرائيليين فان اسرائيل لم تسيطر منذ فترة طويلة على مصير ومستقبل الفلسطينيين، وبالتأكيد عندما يتعلق الامر بالفلسطينيين في قطاع غزة.
ليس فقط أن اسرائيل منحت الفلسطينيين في العام 2005 قطاعاً من الشاطئ من اجل اقامة دولة مزدهرة مع "ريفييرا" مزدهرة، بل هي استمرت في مساعدتهم في تزويد الكهرباء والمياه، ومكنتهم من العمل داخلها. الغزيون تمتعوا، حسب الرواية السائدة، من كل العوالم، سواء بالحكم المستقل في دولتهم أو بالدعم المالي السخي من قبل اسرائيل.
هذه الرواية التي يمكن سماع صداها في كل محادثة في الشارع الاسرائيلي بعد 7 تشرين الاول، توضح بكل الحدة الفرق الجوهري بين تجربة خيبة الأمل بعد الصدمة في اوساط حفنة اليساريين من جهة، واغلبية الاسرائيليين من جهة اخرى. جزء من اليساريين الذين يعتبرون أنفسهم الآن "خائبي الأمل ومستيقظين" توصلوا الى الاستنتاج البائس بأنه امام الكراهية المتقدة والوحشية غير المعقولة للفلسطينيين فان التفكير في امكانية بلورة اتفاق في أي يوم حول دولتين هو وهم. في المقابل، الاسرائيليون العاديون يعتقدون أن حل الدولتين تمت تجربته في السابق على الارض، في اسرائيل وفي غزة، واسرائيل حتى وافقت على تخصيص جزء من مواردها للدولة في غزة، ونتائج هذه التجربة ظهرت كنتائج مخيفة: غزو القوات العسكرية لدولة غزة لحدود اسرائيل.
في حين أنه في اوساط القليل جدا من اليساريين هناك من "استيقظوا" من حلم الدولتين فان اغلبية الاسرائيليين في المقابل "استيقظوا" مما يعتبرونه تجسيدا لنموذج الدولتين في الواقع. ولأن مرحلة الدولتين هي تجربة غير ناجحة فلا يوجد مكان لتكرار هذه التجربة الفاشلة، بل يجب تبني البديل الواقعي الوحيد الذي يخطر ببالهم وهو احتلال كل قطاع غزة وفرض الحكم العسكري المباشر عليه. من الوضع الذي فيه معظم الاسرائيليين على قناعة بأننا نعيش بعد 7 تشرين الاول في عهد ما بعد الدولتين، تظهر نتائج حاسمة، التي من الافضل لبقايا اليسار الاسرائيلي أن تعترف بوجودها. الاولى هي أن تؤيد اغلبية الشعب الاسرائيلي لفترة طويلة استمرار قتال اسرائيل في القطاع بهدف تدمير "الدولة الفلسطينية" المعادية ومنع العودة الى نموذج حل الدولتين الفاشل والمدمر. الثانية، الامكانية الوحيدة لدفع جزء من الاسرائيليين العاديين الى الاعتراف بصلاحية حل الدولتين هي اقناع بعضهم بأن النموذج الوحيد بين اسرائيل وقطاع غزة، الذي كان قائما منذ الانفصال وحتى 7 تشرين الاول، كان بعيداً جداً عن الاتفاق بين دولتين. صحيح أن محاولة الاقناع هذه بالواقع الحالي هي بمثابة عمل سيزيفي، لكن رغم ذلك لم ولن تكون هناك أي طريقة اخرى تجعل الإسرائيليين يؤمنون بوجود أفق سياسي.
عن هآرتس