رغم نجاح اللوبي الصهيوني في أمريكا على مدى عشرات السنوات في تأمين إبقاء السياسة الخارجية الأميركية داعمة لمصالح إسرائيل وسياساتها الاستيطانية التهويدية في فلسطين، لكن بدأ تأثير المنظمات الصهيونية في أمريكا يتراجع بشكل طفيف؛ بعد حملات التعاطف الأميركية الشعبية غير المسبوقة مع الفلسطينيين خلال حرب الإبادة الإسرائيلية التي تشن على الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول / أكتوبر من العام الماضي 2023.
اللوبي وإسرائيل
استفادت إسرائيل من وجود نسبة كبيرة من اليهود في الولايات المتحدة، حيث وصل عددهم إلى ستة ملايين ومائة وخمسين ألف يهودي خلال العام الجاري 2024. تمّ إنشاء لوبي يهودي صهيوني ضاغط في الولايات المتحدة، بالاعتماد على القانون الأمريكي الصادر عام 1946، والذي أعطى الحق للجماعات المختلفة في تشكيل مجموعة ضغط، يهدف إلى ضمان مصالحها من خلال إستراتيجيات وتكتيكات متعددة، والتأثير المباشر، عبر الاتصال بكل من السلطة التنفيذية والتشريعية، فضلاً عن محاولة التأثير غير المباشر، مثل تعبئة الرأي العام، وخلق اتجاه عام يؤثر في صانعي السياسة، لإقناعهم بقرار يحقق مصلحة لجماعة الضغط. وتبعاً للقانون المشار إليه استطاعت الجماعات اليهودية بدعم من الحركة الصهيونية تشكيل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية أيباك( AIPAC) عام 1959، وسجلت لدى الدوائر الأميركية باعتبارها لوبي صهيوني، وتتألف لجنة "أيباك" من رئيس ومدير تنفيذي، ويقوم مجلس الاتحاد الفيدرالي اليهودي، ومنظمة "بناي بريث"، بدعم "أيباك" لخدمة الحركة الصهيونية وإسرائيل، وذلك من خلال دعم اللوبي اليهودي، وزحف نفوذه في الكونغرس الأميركي ومواقع القرار الأخرى في الولايات المتحدة،وتحرص لجنة "أيباك" على أن يحضر ممثل عنها كل اجتماع مفتوح في الكونغرس الأميركي، ليوزع البطاقات، ويتصل بكل موظف من أعلاهم درجة إلى أدناهم. أما الاجتماعات المغلقة فيحضرها دائماً عضو من التجمع المؤيد لإسرائيل في المجلس ويطالع سجل الكونغرس بانتظام، وكل ملاحظة تدعو إلى القلق تستتبع زيارات من قبل اللجنة. ويتضح من هذه الأمثلة مدى قوة اللوبي اليهودي الصهيوني في تأثيره على الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب على حد سواء؛ والثابت أن المساندة الأميركية لإسرائيل تتجاوز حدود مجموعة اللوبي الصهيوني، وهذا ما أكده رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، أثناء عمله كسفير لإسرائيل في واشنطن، حيث قال: "أعتقد أن ارتباط الشعب الأميركي وإدارته بإسرائيل يفوق وزن الجالية اليهودية ونفوذها في الولايات المتحدة الأمريكية".
إستمالة المشرعين
تجلى نهج اللوبي الصهيوني في أمريكا بذراعه الأيباك باتباع نهج المرحلية من أجل تحقيق الأهداف، وتمحورت حول أربعة مبادئ هي، الواقعية، التي تحدد الحد الأقصى لما تطالب به الحركة الصهيونية وإسرائيل في كل ظرف، طبقاً للأوضاع والظروف المتاحة، فضلاً عن المرونة، التي تقوم بتكييف الأشكال والوسائل، والأهم ترسيخ مبدأ اللاتراجع، الذي يعين الحد الأدنى للمطالب الصهيونية والإسرائيلية في كل ظرف، ومن ثم التصاعد أو الانتقال، بعد استنفاد مكاسب ذلك الظرف إلى مرحلة جديدة، تفصح فيها الحركة الصهيونية عن مطالب جديدة، بحيث يكون حدها الأدنى ما كان في المرحلة السابقة حداً أقصى ومطلباً كاملاً؛ وتبعاً لتلك المبادئ يمكن فهم العلاقات الإسرائيلية المتشعبة مع دول العالم. ويجمع متخصصون بأن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة استطاع على مدار السنوات السابقة محاربة أعضاء الكونغرس الذين حاولوا الوقوف إلى جانب الحقوق الفلسطينية، ويتهمون عضو الكونغرس الذي يقف إلى جانب الحق الفلسطيني بمعاداة السامية، وبمناهضة إسرائيل، ونجح اللوبي إلى حد كبير في إبعاد المشرعين الأميركيين عن زيارة البلدان العربية، بقدر نجاحه في عرض وجهات نظر إسرائيل دون غيرها.
تحول المزاج الشعبي
أصيبت إسرائيل بهلع كبير إثر التغير المتدرج في المزاج الشعبي الأمريكي لصالح الشعب الفلسطيني وآلامه ، ليصل إلى المؤسسات التعليمية، حيث شهدت ساحات عدد كبير من الجامعات الأمريكية إعتصامات مناهضة للجرائم والإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، وقد رفع طلاب تلك الجامعات وخاصة جامعة كولومبيا شعارات احتجاجية على الاستثمارات المالية المقدمة للشركات التي تدعم الإبادة الجماعية في غزة، لتصبح تلك الجامعات مصدر إلهام للطلاب في جميع أنحاء العالم، ولتمتد حراكات الطلاب المناصرة لفلسطين إلى العديد من ساحات الجامعات في أستراليا وفرنسا وبريطانيا، داعية إلى وقف عمليات الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني على امتداد الوطن الفلسطيني بمساحته (27009) كيلومتر مربع، حيث أكدّ الطلاب في شعاراتهم الممنهجة والمدروسة على نقاط محددة وضرورة وقف المجازر والعدوان الإسرائيلي ونيل الشعب الفلسطيني دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وقد تجاوز الطلاب في الجامعات الأمريكية تصريحات "مايك جونسون" رئيس مجلس النواب الأمريكي الذي قال "بأن حراكات الطلاب معادية للسامية"، حيث نفى عدد كبير من الطلاب اليهود في جامعة كولومبيا تصريحات جونسون، وقالوا إن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين لا تشكل تهديداً ولا تعتبر معادية للسامية بأي شكل من الأشكال. ويمكن الجزم بأن حراكات طلاب الجامعات في الغرب المنحازة للحق الفلسطيني، وخاصة الجامعات الأمريكية دالة كبرى على تراجع وانحسار نفوذ اللوبي الصهيوني في أمريكا وخاصة في المؤسسة التعليمية. ومن نافلة القول أنه رغم تراجع نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، إلا أنه مازال قادراً على التأثير في السياسة الأمريكية الخارجية والإبقاء على الدعم الأمريكي لإسرائيل، بصرف النظر عن الرئيس الأمريكي القادم بعد انتخابات تشرين الثاني /نوفمبر من العام الجاري.