بعد مرور عام على بدء حرب الإبادة والاقتلاع العرقي بشكلها الجديد والمحاولات الجارية لإعادة التشكيل الجيوسياسي للإقليم، فإن الأيام القادمة قد تحمل في طياتها تحولات نوعية في المواجهة الجارية على الساحة الإقليمية والمحلية. لم يعد مقبولًا أن يستمر البعض في الاعتماد فقط على "نظرية المؤامرة" لتحليل هذه الأحداث. النظر إلى الأمور من هذه الزاوية وحدها يقيّد الفهم ويمنعنا من رؤية الصورة الكاملة. أدعو هؤلاء إلى الاطلاع على النظريات السياسية الأخرى التي تقدم فهماً أعمق للعلاقات الدولية والتحليل السياسي، فقد تساعدهم هذه النظريات على استنتاج أن هناك متغيرات سياسية متسارعة ستفضي إلى تحولات كبيرة في المنطقة، بعيدة عن ما يصفونه بالمسرحيات السياسية.
ما نشهده اليوم هو صراع حقيقي له أبعاد دولية وإقليمية تتجاوز مجرد المناورات السياسية أو ما قد يصفه البعض بالمسرحيات. يعكس هذا الصراع مقاومة لسياسات الاستعمار الجديد والهيمنة المفروضة على شعوب المنطقة، وهي قضايا يمكن فهمها من خلال تبني "نظريات مثل ما بعد الاستعمار" و "النظرية النقدية". المقاومة، بمختلف أشكالها والتي هي حق الشعوب التي تخضع الاستعمار والاحتلال، تمثل تجسيداً لهذه النظريات، حيث تعبر عن كفاح الشعوب من أجل التحرر والكرامة في مواجهة قوة استعمارية تستخدم أشكالاً حديثة من الهيمنة.
فالهجمات الصاروخية التي استهدفت منشآت عسكرية إسرائيلية، وفقًا لصور الأقمار الصناعية وتقارير المخابرات الأمريكية والروسية، ليست مجرد "مسرحية" كما يزعم البعض، بل تعكس القدرة الصاروخية الإيرانية المتطورة التي يمكن أن تكون أكثر دقة بالضرر وتحمل رؤوسا تفجيرية أكبر، بما فيها النووية. هذه الضربات تحمل رسائل سياسية واضحة بشأن التوازنات العسكرية في المنطقة التي لا يجب ان تبقى واقعة تحت سياسات الردع والترهيب الاسرائيلية، وتنذر بأن أي تصعيد قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وهنالك المسيّرات العراقية التي استهدفت قاعدة إسرائيلية وأدت إلى مقتل وجرح عدد من الجنود الإسرائيليين وقبلها اليمنية التي وصلت تل أبيب، هل يمكن اعتبارها أيضًا مسرحية؟ أم أن هذا الفعل يعبر عن تحول نوعي في المواجهة العسكرية لقوى المقاومة؟ إن الهجمات المتكررة من قِبَل المقاومة، سواء عبر الصواريخ أو الكمائن، تشير إلى أن ما يجري على الأرض هو معركة حقيقية، لا تمثيلية. إنها تعبير عن قدرة المقاومة على التأثير واستمرارها في مواجهة الاحتلال والسيطرة على الموقف العسكري.
دور الولايات المتحدة
في هذا السياق، لا يمكن إغفال دور القوى الكبرى في تشكيل ملامح الصراع. إلا أنني أرى أن الدور الأمريكي في المنطقة يتسم بالسعي إلى استمرار الهيمنة وتأجيج بؤر التوتر والدعم غير المنتهي بكافة أشكاله لإسرائيل. تسعى الولايات المتحدة إلى تفجير المنطقة من الداخل، من خلال دعمها المتواصل لإسرائيل وتحريضها على مزيد من العمليات العسكرية. كما تستغل أمريكا هذه التوترات لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي في الشرق الأوسط التي تريد أن تصفه بالجديد، وهو ما يظهر بوضوح من خلال انتشار قواعدها العسكرية في مختلف البلدان، بهدف تكامل ما يجري بالشرق الاوسط مع ما يجري بحرب الوكالة في أوكرانيا وبحر الصين.
الدور الروسي الحالي
على النقيض من ذلك، فإن روسيا، على الرغم من تدخلها في بعض الملفات الإقليمية، لا تسعى إلى الهيمنة بالطريقة التي تنتهجها الولايات المتحدة. بل إنها تقف تاريخياً وامتداداً لسياسة الاتحاد السوفياتي السابق، في جانب دعم الشعوب التي تواجه الاحتلال، بما في ذلك تقديمها للمساعدات العسكرية الضرورية للمقاومة. روسيا لا تمتلك قواعد عسكرية في المنطقة كأمريكا، لكنها تدعم بشكل مباشر دولًا مثل إيران في تطوير قدراتها العسكرية، كما أشارت التقارير الأخيرة إلى أن موسكو قد توفر صواريخ متطورة مثل الاسكندر و S400 ودعماً تقنياً للصواريخ الإيرانية من خلال أنظمة الجي بي إس المقابلة الروسية أو الصينية تساعدها في مسارها المطلوب.
تطور استراتيجيات المقاومة يساهم بالتحولات نحو نظام دولي متعدد الأقطاب
إن هذه التطورات تعكس أيضا تحولًا في استراتيجيات المقاومة التي لم تعد تعتمد فقط على المواجهة العسكرية التقليدية، بل أصبحت تعتمد على التكنولوجيا الحديثة إضافة إلى الإرادة وامتلاك عقيدة الحق والشجاعة. الهجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ الدقيقة تثبت أن المقاومة قادرة على مجابهة أعدائها باستخدام أساليب مبتكرة تتحدى تفوقهم العسكري. وهذا يعزز من أهمية التحليل المستند إلى النظريات السياسية التي تركز على استراتيجيات التحرر ومقاومة الهيمنة، الأمر الذي يساهم بالتحولات الجارية نحو نظام دولي متعدد الأقطاب.
انعكاسات الصراع على الشعوب
إن هذا الصراع لا يقتصر فقط على المعارك بين الدول أو المنظمات العاملة خارج إطار الدول، بل يمتد ليؤثر بشكل مباشر على حياة المدنيين. الاقتلاع العرقي، التهجير القسري التجويع، تدمير البنية التحتية، والانتهاكات الحقوقية هي بعض من التداعيات الإنسانية التي يعاني منها المدنيون نتيجة لهذه الحروب الاستيطانية الاستعمارية التي تهدف إلى تحقيق ما يسموه بإسرائيل الكبرى على حسابنا وحساب سيادة دول شقيقة أخرى. ومع استمرار المواجهات، يجب أن نضع نصب أعيننا التأثير المدمر الذي تتركه هذه الحروب التي تحركها الولايات المتحدة وحليفتها الإستراتيجية إسرائيل على المجتمعات المحلية التي تعاني من تداعياتها على مدار عقود.
البدائل السياسية أمامنا: الرؤية التحررية الواقعية في مناهضة الاحتلال الاستيطاني
في ظل الظروف الراهنة، يبدو أننا بحاجة إلى إعادة تقييم استراتيجياتنا السياسية والمراجعة الدقيقة لها لمواجهة التحديات المتزايدة وخاصة منها المشروع الأمريكي الإسرائيلي المتعمد لإعدام حل الدولتين بمقابل المشروع الصهيوني التلمودي الممتد والمتمدد على الأرض وهو العنوان الحقيقي لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وذلك دون التخلي عن فكرة التحرر الوطني وحقوقنا غير القابلة للتصرف على طريق اسقاط المشروع الصهيوني في كل فلسطين التاريخية على المدى الأبعد. اليوم يجب أن تتحلى القيادة الفلسطينية بجرأة وبواقعية سياسية كفاحية تتعامل فيها مع المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية، وتعمل على استغلالها لصالح القضية الفلسطينية لإنهاء الاحتلال أولاً في إطار رؤية تحررية واضحة وبرنامج وأدوات وطنية مجربة بعيداً عن الضغوطات من هنا أو هناك، في إطار تعزيز دور منظمة التحرير باعتبارها الجبهوي الوطني الواسع على قاعدة القرار المستقل وطنياً بعيداً عن التأثر بالضغوطات الجارية من هنا وهناك وتوسيع مشاركة كافة فئات شعبنا وبالمقدمة منهم الشباب في إطار المنظمة.
حركة التاريخ لا تعرف السكون
في النهاية، أؤكد أن ما نراه اليوم هو مواجهة حقيقية متعددة الأبعاد. علينا أن نوسع آفاقنا التحليلية ونتبنى نظرة أكثر شمولية تأخذ في الاعتبار السياقات الجيوسياسية الأوسع. التغيرات القادمة ستكون كبيرة، ولن يكون هناك مجال لمن يُصرون على رؤية كل شيء من خلال "نظرية المؤامرة" أو امتلاك عقلية الهزيمة التي تقبل باستدامة الأمر الواقع. إن فهم المعارك الجارية يتطلب تبني أدوات تحليلية جديدة تمكننا من مواكبة هذه التطورات والتفاعل معها بالمعنى السياسي بما يخدم مصالح الشعوب المضطهدة وقضايا تحررها الوطني والاجتماعي ورؤية التاريخ بحركته المستمرة التي لا تعرف السكون.