الانقسام الوجداني والأخلاقي حيال حرب إسرائيل ضد لبنان

 

 

 

في حرب إسرائيل الوحشية ضد لبنان، والتي تجري بهدف إزاحة "حزب الله" من الجنوب اللبناني، ونزع سلاحه، بخاصة الصاروخي، وإنهاء النفوذ الإيراني أو إضعافه في لبنان وسوريا، وضمنه بدعوى الفصل بين الحزب وحرب إسرائيل ضد غزة، بدا واضحا أن ثمة انقساماً كبيراً ومؤثراً ومؤلماً، على الصعيد الأخلاقي والوجداني والسياسي إزاء هذا الحدث، بخاصة بين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وهو أمر لم يكن مألوفاً إلى هذه الدرجة في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وعلى الأغلب، فإن الانقسام الحاصل يتمثل باللامبالاة إزاء الحرب الجارية باعتبارها بين طرفين يدافعان عن مصالحهما ومكانتيهما كقوتين مهيمنتين في المشرق العربي، أي إسرائيل من جهة، و"حزب الله" بالوكالة عن إيران من الجهة الأخرى.

تبعا لذلك، فقد تمثل ذلك الانقسام، أيضاً، بأخذ موقف حذر، أو متحفظ، من الحرب التي يذهب ضحيتها الأبرياء، وتؤدي إلى خراب العمران، وبتبلور وجهات نظر معادية للطرفين معاً، إذ ان إسرائيل دولة معادية بداهة، منذ إقامتها، في حين ينظر إلى النظام الإيراني بوصفه ينتهج سياسات تستهدف تعزيز مكانته في الهيمنة على بلدان المشرق العربي، وتصديع وحدة مجتمعاتها على أسس طائفية ومذهبية، وتقويضه بنى الدولة لمصلحة ميليشيات طائفية، يقدم لها المال والسلاح، وتشتغل ذراعاً ودرعاً له ولأجندته، وهذا حصل في العراق ولبنان وسوريا.

 أما في فلسطين، فإن الالتباس الحاصل ناجم عن ملاحظة أن إيران تستخدم تلك القضية لتبرير تدخلاتها في الدول العربية، بدلالة إنها في لحظة الاختبار العملية، أي طوال عام من حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، لم تبد أي مؤشر يفيد بتعزيز صدقية الادعاءات التي كانت تروج لها، باعتبارها زعيمة جبهة المقاومة والممانعة، في مواجهة إسرائيل، التي كانت ترى إنها هشة، ويمكن أن تهزمها في ظرف ساعات أو أيام!

بيد أن ذلك الشعور تفاقم بعد نأي إيران بنفسها، حتى عن اعتداءات إسرائيل المتكررة عليها، باغتيال شخصيات قيادية فيها، وبتوجيه ضربات لنفوذها في لبنان وسوريا، طوال الأعوام الماضية، ثم تفاقم ذلك مع تركها "حزب الله" في المعركة، في مواجهة استفراد إسرائيل به، من دون أن تفعل شيئا يستحق الذكر، باستثناء قصف صاروخي محدود، لم يؤثر على معادلات الصراع، أو لم يخفف من هجمة إسرائيل وتوحشها في فلسطين او لبنان، وهو ما حصل مرتين في نيسان (إبريل) وتشرين الاول (اكتوبر) الماضي. واللافت ان ذلك تم بعد إبلاغ الولايات المتحدة الأميركية، تحسبا لأي رد فعل، ومع تأكيدها أنها لا تريد الدخول في حرب واسعة او مباشرة مع إسرائيل قد تودي بنفوذها في المنطقة، وتشكل تهديداً أمنياً واقتصادياً وسياسياً لها!

وعدا عن علاقته تلك مع إيران، فإن صورة "حزب الله"، لدى أوساط لبنانية وسورية وفلسطينية، مشوشة وملتبسة وتدعو الى الفحص والحذر. بل ان ثمة من يرى أن تدخلات الحزب المحدودة لإسناد غزة، والتي لم تؤثر على شدة حرب إسرائيل عليها، أو لم تخفف منها، تأتي فقط للتغطية على قصور شعار "وحدة الساحات"، ومحاولة للاستثمار في القضية الفلسطينية، إضافة إلى إبقاء قضية فلسطين ورقة لتعزيز النفوذ الإقليمي لإيران، وتغطية سياساتها فيها.

بيد أن صورة "حزب الله" التي كانت صعدت كثيراً، على خلفية مقاومته الوجود الإسرائيلي في جنوب لبنان، ونتيجة انسحاب إسرائيل (عام 2000)، لاسيما بعد حرب 2006، تآكلت كثيراً، بعدما استدار الحزب الى الداخل للهيمنة على الدولة والمجتمع في لبنان (وفق واقعة 2007)، وبدلالة تحوله إلى قوة حراسة لنظام الطائفية والفساد والنهب في لبنان، وقمعه الانتفاضة الشعبية عام 2019.

لكن الصورة الأكثر إيلاماً وقسوة وتأثيراً، والتي غيرت مكانة الحزب وصورته، في الرأي العام في مجتمعات المشرق العربي، تأتت من مشاركته في الصراع السوري، وقتله السوريين ومساهمته في تشريد ملايين منهم في بلدهم، مع مجازر أو أهوال تمت في مناطق مثل الزبداني ومضايا والقصير وحمص ودمشق وإدلب، بل إن عدداً من قادة "حزب الله"، الذين اغتالتهم إسرائيل أخيراً، تم اشهار مشاركتهم في القتال في سوريا، من دون أي وجل أو اعتذار.

ومعلوم إن "حزب الله" توقف عن المقاومة ضد إسرائيل منذ عام 2000، أي منذ انسحاب إسرائيل من الجنوب، باستثناء العملية التي استجرت حرباً على لبنان ونجم عنها مصرع أكثر من 1200 لبناني (عام 2006)، والتي أتت كمحاولة منه لاستعادة هيبته، بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وإخراج الجيش السوري من لبنان، أي إنه على الأقل توقف عن مقاومة إسرائيل تماماً منذ عام 2006 إلى نهاية 2023، أي منذ 17 عاماً!

عدا عن كل ذلك فإن "حزب الله" في بنيته وايدلوجيته، يظهر كحزب طائفي وديني، أكثر من كونه حزباً سياسياً، وطنياً، أي لكل اللبنانيين، بل إنه في خطابات قادته دائماً ما يستدعي الماضي، وصراعاته، وضمن ذلك الاتكاء على سيرة الحسين أو مأساته لتوظيفها في الشحن الطائفي، رغم أن ذلك ينطوي على ماضوية، وعلى استثارة خطيرة للعصبيات والانقسامات والنزاعات الطائفية.

حقا، صعب ومؤثر ومؤلم حال الانقسام السياسي والوجداني الحاصل، وهو ما تظهره وسائط التواصل الاجتماعي، مع ذلك فإن هذا الأمر لا يجب أن يكون على حساب البعد الأخلاقي، أو على حساب الاحتكام لقيم الحرية والعدالة والكرامة، إذ ان إسرائيل تشن حرباً وحشية مدمرة على لبنان كله، تنتهك فيها كل الأعراف والقوانين الإنسانية والدولية، وهو ما كانت وما زالت تفعله في غزة، لذا فإن المصلحة تستدعي تركيز الجهود على وقف تلك الحرب، وتجنيب لبنان، وتالياً الفلسطينيين، ويلاتها، وأهوالها، وتفويت الاستهدافات الإسرائيلية.

ولعل تلك الحرب الإسرائيلية، بأهوالها وآلامها ودروسها، بمثابة فرصة لـ"حزب الله" لمراجعة طريقه وتاريخه وارتباطاته، والاعتذار للسوريين وللبنانيين، وهو بالطبع اعتذار واجب وليس منة، وهو لمصلحة "حزب الله" ذاته، إن أراد ذلك، أو إن امتلك الجرأة الأدبية والأخلاقية والسياسية لذلك.    

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...