تنطوي تجارب حركات التحرّر الوطني والمقاومات والثورات المسلحة، ومنها الفرنسية والروسية والكمبودية والجزائرية والفلسطينية واللبنانية والعراقية والليبية واليمنية والسورية، التي انتهجت العنف، كوسيلة للتحرير أو التغيير، على ارتدادات عكسية للعنف على مجتمعاتها، وكياناتها السياسية، وعلى طبيعة علاقتها بشعبها، بخاصة بحكم الافتقاد لحركات سياسية، ممتدة، تستند إلى تجارب كفاحية تراكمية في بيئة سياسية مستقرة وراشدة وعقلانية ولو بشكل نسبي.
في الواقع، فإن مشكلة تلك الحركات والمقاومات والثورات أنها تستند في سعيها لتحقيق المكانة والغلبة إلى السلاح، والقسر، بأسرع ما يمكن، حتى ولو تضمن ذلك أكلافاً بشرية ومادية باهظة، بدلاً من انتهاج آليات التراكم والكفاح المتدرج في تحقيق الإنجازات.
لنلاحظ أن خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لـ"حماس"، اعتبر في تصريحات له أن خسائر الشعب الفلسطيني، في حرب إسرائيل على غزة، "خسائر تكتيكية"، وأن إسرائيل تخسر على المدى الاستراتيجي! أيضاً، ثمة في قيادات "حماس" و"حزب الله" من يرى أن إسرائيل لم تحقق أهدافها بعد، وأنها تتعرّض لخسائر كبيرة، وأن المقاومة بخير (!) وهو قول مكرّر في خطابات قياديي "حماس" و"حزب الله".
هكذا فإن مشكلة الحركات المسلحة، بخاصة في بلادنا، في صراعها ضدّ عدوها، أنها تركن إلى العاطفة، والروح القدرية، واستعداد الناس للتضحية، لا سيما إذا كانت تستند إلى ايديولوجيا معينة، دينية أو خلاصية. ومن جهة ثانية، فإن مشكلتها، أيضاً، إنها تعلي من شأن الصراعات الداخلية البينية، لاعتقاد كل واحدة منها بأنها تحتكر الحقيقة، وأن الآخرين يجب أن يتماهوا معها، وأن من حقها رسم المجتمع، وبالتالي تحديد خيارات الشعب بناءً على رؤاها، وهو ما حاولته "حماس" في غزة منذ 17 عاماً، وما حاوله "حزب الله" في العقدين الماضيين، وما حاولته فصائل المعارضة السورية المسلحة، الإسلاموية، في سوريا أيضاً.
تبعاً لذلك يبدو بديهياً أن تلك الثورات، أو الحركات، خسرت كثيراً في صراعاتها البينية، وأنها استنزفت جزءاً كبيراً من قواها، الرمزية والمادية، في تلك الصراعات، ربما بما يزيد عمّا استنزفته في مصارعة عدوها (مثلاً التجربتان الروسية والجزائرية)، وأن مكانتها أو صدقيتها، المعتمدة على القوة والنفوذ، تتراجع في مجتمعاتها، بدل أن تتوطد، والأمثلة واضحة في معظم التجارب؛ إذ تكفي مراجعة ذهنية موضوعية ومسؤولة للتأكد من صدقية هذا الاستنتاج؛ بغض النظر عن رأينا في هذا الحزب أو ذاك الفصيل.
ولعله من المؤسف حقاً أن معظم تلك الحركات المسلحة قد تصبح، من حيث لا تدري ربما، أكثر شبهاً بأعدائها، الذين ثارت عليهم، في انتهاج العنف، وإكراه المجتمع، وإقصاء الآخر، وتجريم النقد، وإزاحة المختلف، وتعزيز التعصب القومي أو الطائفي أو المناطقي والتحول إلى سلطة أحادية وإقصائية.
في بدايات الثورة الفلسطينية، مثلاً، سادت شعارات من نوع: "النظرية تنبع من فوهة البندقية"، و"لا صوت يعلو فوق صوت البندقية"، و"ديموقراطية غابة البنادق"، و"اللقاء في أرض المعركة"، و"هويتي بندقيتي"، وحتى إن شعار كتّاب فلسطين، أو اتحاد كتّابهم الرسمي، كان: "بالدم نكتب لفلسطين". وفي المحصلة، فقد استُخدم السلاح في الصراعات الداخلية الفلسطينية، كما حدث في لبنان (1983) بين الفصائل الموالية للنظام السوري وفصائل منظمة التحرير، وبعد ذلك، تكرر الأمر لحظة هيمنة "حماس" على غزة، في ما سُمّي بالحسم (2007).
من جانب آخر، يمكن ملاحظة عوارض تلك المسألة، أيضاً، في تقديس الكفاح المسلح، وعدم إخضاعه للفحص والنقد والمساءلة، في التجربة الفلسطينية، مع افتقادها لاستراتيجية واضحة وممكنة ومستدامة ويمكن الاستثمار فيها.
في التجربة السورية حصل مثل ذلك وبطريقة سريعة، ومريعة، في هيمنة الفصائل العسكرية على تلك التجربة، وعلى مجتمعات السوريين في ما سُمّي "مناطق محررة"، وفي اقتتال "أخوة المنهج"، في ما بينهم، أي الفصائل الإسلامية المسلحة، كما حصل باعتقال تلك الفصائل للنشطاء، وقمعها حرّية الرأي، بوساطة القسر والعنف، في المناطق التي تسيطر عليها، ما أدّى إلى خسارة المعارضة السورية ذاتها، ليس فقط كممثل لكل السوريين، ولسوريا المستقبل، إذ هي خسرت حتى مناصريها في البيئات الشعبية المساندة للثورة، كما خسرت تميزها عن النظام، أو تقديمها نموذجاً أفضل منه في السلطة وفي إدارة المجتمع والموارد.
في لبنان، فإن تجربة "حزب الله" تُعتبر بمثابة نموذج للانزياح الذي يمكن أن يصل إليه حزب، أو ميليشيا مسلحة، نشأت على أساس طائفي، وتبعاً لارتهان خارجي، بالمال والسلاح، والدعم السياسي، وهي ذات تجربة الميليشيات الطائفية المسلحة في العراق.
وكما شهدنا، في تلك التجربة، فإن شحنة العنف المختزنة لدى "حزب الله" (وأخواته العراقيات)، الذي كفّ عن مقاتلة إسرائيل، وهي المبرر المفترض لوجوده، منذ انسحابها من جنوب لبنان (2000)، تحولت نحو الداخل اللبناني، للتنفيس عن ذاتها، بغلبة الحزب على الدولة والمجتمع اللبنانيين، بما في ذلك حراسة نظام الفساد والنهب والطائفية، إلى حدّ مواجهة انتفاضة اللبنانيين أواخر العام 2019، ومع استخدام فائض قوته في قتل السوريين وتشريد الملايين منهم، تعزيزاً لدور إيران في سوريا، وهو ذات الأمر الذي فعله أشقاء هذا الحزب، من الميليشيات الطائفية في العراق، التي تعمل كأذرع إقليمية لإيران في ذات التوقيت.
الفكرة هنا أن عدوى العنف، وارتداداته السلبية، تستفحل أكثر كلما ضعف المبنى السياسي، والديموقراطي، للحركات الوطنية، أو لحركات المعارضة السياسية، بخاصة إذا لم تتأسس تلك الحركات على قيم الحرّية والكرامة والعدالة، كقيم فوق سياسية، وبالتأكيد فإن ذلك الأمر يتفاقم أكثر بقدر ارتهان تلك الحركات لهذه الدولة أو تلك، بحيث تعمل وفقاً لإيقاع، أو لمطالب، الأجندات الخارجية، وليس وفقاً لمبادئها المفترضة، أو أولوياتها هي.
وفي الواقع، فحتى إزاء العدو، أو الخصم، يفترض أن تكون تلك القيم، أي الحرّية والكرامة والعدالة، هي المعيار الأعلى، والحاكم، إذ لا معنى لحركات سياسية يفترض أنها تناضل ضدّ الظلم والاضطهاد، أياً كان نوعه، من دون أن تتمتع بالتفوق الأخلاقي، على خصمها، أو عدوها، لا أن تنجرّ إلى ردود فعل تجعلها تتشبه به.