غزة وفلوريدا ومعاون الجزّار

فلوريدا ... غزة

 

 

 

إن المقارنات تفيد أحيانا في استنباط مفاهيم وأدلة تساعدنا على فهم واقعنا المعاصر، ومن هذه المقارنات المقارنة بين الشعوب وجغرافية تواجدها، وفيما يهمنا أنها عن مكانين على كوكبنا، تحولتا بين ليلة وضحاها إلى منكوبتين، إحداهما بفعل أيدٍ إجرامية، والأخرى بفعل إعصار مداري، وبالرغم بأنهما لا تتشابهان في أسلوب المعيشة والبقعة الجغرافية، إلا أنهما تقاسما نفس سوط الجلاد، فالإدارة الأمريكية التي تدير معركة غزة بتفرعاتها اللاحقة، لوجستياً واستخبارياً وعسكرياً ومالياً، وأنشأت الميناء العائم على جثث وأشلاء الضحايا في غزة لا تبالي أيضاً بمواطنيها في ولاية فلوريدا المنكوبين، فهي لا تبالي بالإنسان سواء بسواء، فبدلاً من تقديم الدعم المعنوي والمادي لمتضرري الولاية الأمريكية، تقوم بإرسال حزمة مساعدات بقيمة 8.7 مليار دولار إلى طفلتها المدللة في المنطقة، إجراء ربما كاد يمر مرور الكرام، وتطويه ذاكرة الشعوب القصيرة الامد، لولا اعتراض كثير من الأمريكيين أنفسهم على تخبط إدارة بايدن في التعامل مع أزماتهم الداخلية ومعالجة المشكلات التي تعصف بالمجتمع، ومنها البطالة التي يعاني 4.2% من سكانها منها، وأزمة السكن والارتفاع الملحوظ في أسعار الإيجار، التي تؤدي بطبيعة الحال إلى تشريد العديد منهم إلى الساحات العامة والحدائق والشوارع، هي حكومة مُصرة على بقاء إسرائيل في وضع متقدم على دول المنطقة، ورفدها بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكا وتدميراً، عقلية استعمارية بدأت بتأسيس الولايات، ولا زالت نهجاً يبني ويؤطر لعلاقاتها الدولية، وكيفية تعاملها مع المشكلات التي لا تؤثر معظمها في اقتصادها، ولا على مواطنيها، فهي تحمل عبء منفرداً، وتضخ الأموال فقط للبقاء على سدة القطب الواحد، وهي سياسة ستزول، وينقلب السحر على الساحر أجلا أم عاجلا، فلا ثابت في علم السياسة، وشكل وأحجام الدول، فالعالم شهد انهيار إمبراطوريات حكمت العالم من شرقه إلى غربه، وزالت وزال وجودها من التاريخ، ولم يبق من ذكرها ما يكتب في صفحات التاريخ، يجب على الأمريكيين في هذا التوقيت العصيب عليهم، الاتعاظ من مصير الشعوب التي تحولت من مصاف الأمم إلى أرذلها، وهو مصير لم تكن تلك الكيانات تفكر فيه، ولو في أسوأ كوابيسها، ولعل انهيار الكيانات السياسية عبر التاريخ تشعله شرارة صغيرة، وتحوله إلى نار رمضاء تحرق ما يواجهها، ولهم في انهيار الاتحاد السوفيتي خير دليل، وانتفاضة الألمان وهدم جدار برلين، وغيرها من الأمثلة.

انتهى تدمير الإعصار في فلوريدا، لكن الدمار المدعوم أمريكيا لم ينته ما زالت أيدي القتلة تعيث في الأرض القتل والتشريد والتدمير، دمار مدعوم بالمال والسلاح والفيتو الأمريكي، دمار لا يلوح في الأفق أي وسيلة لإيقافه، أو الاستفاقة من دون النظر إلى نتائجه الكارثية، والتي تحتاج أعواماً لإصلاح واعمار ما حدث، وأعواما إضافية لمعالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لسكان عاشوا المجزرة طيلة سنة كاملة- وما زالوا-، لم تتوقف القنابل الذكية خلالها من سحق الجماجم، ولم تتوقف الرصاصات عن استهداف الرضع، ولم يسلم من هذه الحرب المشافي والمدارس ودور العبادة، حرب همجية بلا هوادة، تسحق كل شيء في طريقها من دون تفكير، فالحماية المطلقة التي تمنحها إياها الولايات المتحدة، تساعدها على الإفلات مرة تلو المرة عن كل جرائمها وأثارها، في ظل مجتمع دولي شجاع فقط في التنديد، وليس له القدرة على حماية مؤسساته الدولية ومقراتها، التي سوتها آلة الحرب الإسرائيلية بالأرض، وليس له القدرة على حماية موظفيه الدوليين، ولا حتى قواته التي تجرأ الاحتلال على الطلب منها بإخلاء مواقعها.

تحتاج غزة من الداخل الأمريكي، إلى قرار شعبي يرفض سياسات دولتهم ونهجها، ودعوتها إلى الالتفات إلى الداخل المصاب، وإنقاذ حيوات الناس في فلوريدا وما حولها، وضخ الأموال إلى الداخل بإنسانية، وإيقاف التمويل المفتوح للحرب التي لا تجلب إلى الدمار لغزة، إنهاء هذه الحرب يبدأ ممن ذاق الآن مرارة اللجوء والعوز وعدم توفر الماء والغذاء والمسكن ممن تشردوا بفعل ظاهرة طبيعية لا حول لهم في إيقافها أو التخفيف من آثارها، وهم قادرون بالضغط على حكوماتهم لإيقاف الحرب التي تشارك بها بإرادتها ودعمها وتمويلها، تستطيع الوقوف ولو لمرة واحدة بشكل جدي، ورفع العصا أمام الحكومة التي لولاها لتوقف سرطانها من التمدد، فمن يدعم ويمول ويمنح الفيتو، يجب أن يطاع، يجب على الاحتلال إطاعة عرابه، ولو بالقوة، فالحرب التي بدأها بهمجية على قطاع غزة ينتشر هشيمها إلى الضفة، وهو ما يريده احتلال لا يود منح الشعب الفلسطيني حقه في الحياة، ويوجعه أن هذا الشعب حيٌ، ويقاوم الاحتلال بما أوتي من قوة، فهو احتلال ضعيف أمام عظمة سيدة فلسطينية تعمل مدرسة تلاميذ، يلاحقها وزيره الإرهابي بن غفير، ويغيظه التمثيل الدولي المتزايد لدولة فلسطين في المحافل الدولية، ويرى أن الفلسطيني إرهابي بالفطرة.

 شعبنا كان ولا يزال يطالب بحقه الوجودي في أرضه وسمائه وبحره ونهره، ولا يطلب إلا من المحتل الخروج والرحيل بكل أدواته الاستيطانية المقيتة، وهو على لسانه شاعره الوطني محمود درويش لخص هذه المغادرة بـ " أيها المارون بين الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم، وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا……

 

 

 

Loading...