أسباب وتداعيات المواقف الأوروبية على قضيتنا في ظل تنامي دور أحزاب اليمين فيها

 

بعد أكثر من مئة يوم من حرب الإبادة الجارية حالياً ضد شعبنا الفلسطيني بشكل عام، فإن أحد مخرجات ذلك من التأثير وربما الأكثر أهمية بسبب تداعياته على البنية الجيوسياسية التي بنيت بعد نهاية الحرب الباردة، هو العجز الواضح للمنظمات الدولية عن التأثير على صراعات معينة أو إيقافها، ويرتبط ذلك بالهيمنة التي تفرض ازدواجية المعايير التي يتم من خلالها قياس المواقف المختلفة طبقاً لمصالح النظام الدولي الأحادي الذي ما زال سائداً لكن بتراجع.

فمنذ نهاية انهيار المعسكر الإشتراكي الشرقي فقد استقر النظام العالمي ذو الأحادية القطبية حتى الآن من خلال كل أشكال الهيمنة بقيادة الولايات المتحدة التي فرضت سياساتها ومواقفها على حلفاؤها وتحديداً على دول الإتحاد الأوروبي والتي باتت اليوم تعاني من هستيريا متصاعدة أمام أزمة النيوليبرالية الجديدة من جهة، وانعكاسات خروج بريطانيا من الإتحاد من جهة أخرى وتداعيات حرب الناتو بالوكالة في أوكرانيا والعقوبات الأمريكية - الأوروبية على روسيا كما بالتهديدات ضد الصين من جهة ثالثة، كما وما يجري الآن من تنفيذ حرب الأبادة في غزة وما يجري بالضفة والقدس أيضا وبالشرق الأوسط عموماً من جهة رابعة .

كل ذلك أصبح ينعكس على شعوب أوروبا التي باتت تدفع ثمناً غالياً لقاء تلك السياسات بما له علاقة بالطاقة والأوضاع الاقتصادية المنهارة والمواقف السياسية التابعة وخروج المظاهرات المليونية الشعبية على أثر ذلك بالمدن الأوروبية ضد سياسات الاتحاد الاوروبي ودوله الاعضاء والإجراءات التقشفية لحكوماتها التي تسيطر عليها أحزاب اليمين أو يمين الوسط المحافظ او حتى اليمين الشعبوي المتطرف في بعض منها.

كما وانتشرت فعاليات المعارضة للسياسات الرسمية الأوروبية المنحازة للمواقف الإسرائيلية بشكل عام والتي بدأت بالظهور بين عدد من دول الإتحاد، الأمر الذي أصبح يهدد مصالح بعض الأنظمة الحاكمة الأوروبية.

فطالما الاتحاد الأوروبي ما زال يدور في فلك الولايات المتحدة والتأثيرات الإسرائيلية بحكم عوامل ومحددات مختلفة ويمضي باتجاه الولايات المتحدة ويتبع نمط سياساتها الخارجية حول معظم قضايا العالم، فإنه لا يستطيع أن يتمتع باستقلالية القرار السياسي وتحديداً في شأن قضية شعبنا الفلسطيني والموقف الحازم المطلوب من جرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي .

حتى أن تحويل أموال الإتحاد الأوروبي التي تم إقرار استمرار صرفها بقرار في وقت سابق، سيتم صرفها إلى السلطة الوطنية من خلال النرويج ومراقبة الولايات المتحدة لضمان عدم صرف مبالغ منها إلى غزة او لعوائل شهدائنا وأسراَنا.

إن فوز اليمين في عدد من الدول الاوروبية أمام تراجع أحزاب اليسار فيها نتيجة الضغوطات والابتزازات المالية التي تعرضت لها حكومات قادتها الأحزاب اليسارية بأوروبا من طرف أمريكا والبنك الأوروبي كما والتدخلات الإسرائيلية، هي بعض الأسباب التي تفسر فوز اليمين بمعظم الدول إن لم يكن بكافة الدول الأوروبية، بما يحقق للولايات المتحدة مصالحها في أوروبا وفي عملية صراعاتها الدولية المفتعلة من جانبها، كما ويحقق ذلك مصالح اليمين المتطرف الإسرائيلي بمنطقتنا بل ولتحالفات اليمين الليبرالي العالمي الذي ما زال ينتظر إعادة فوز ترامب بالانتخابات القادمة وبقاء نتنياهو على رأس هذا المحور السياسي الفكري بما يخدم الحركة الصهيونية العالمية وحلفائها من أحزاب اليمين المحافظ المسيحي بالولايات المتحدة وأوروبا التي أصبحت تجنح نحو تعزيز الأسلامفوبيا ومعاداة قضايا الهجرة والتمييز ضد من هم ليسوا من الجنس الأبيض النقي اللون.

هذه التطورات تعيق إمكانية لجم تمدد اليمين الأوروبي وتفتح المجال حتى أمام إمكانية وصول اليمين المتطرف والشعبوي وقوى النازية الجديدة إلى الحكم في تلك الدول، وتتيح المجال أمام استمرار حكم أحزاب اليمين ويمين الوسط فيها خاصة أيضا مع توسع قضايا التباينات وأزمة الهوية بين أحزاب اليسار المختلفة ، الأمر الذي ادى إلى تراجعها وإلى إعاقة وجود سياسات واضحة وصريحة تجاه مناهضة الإحتلال الإسرائيلي، بما يمنع أيضاً الاعتراف الرسمي لدول الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين وفق توصيات العديد من برلمانات تلك الدول ويبقيها حبراً على ورق إذا ما استمر حكم أحزاب اليمين فيها، بعكس ما يجري مثلاً في إسبانيا لمسار الاعتراف بدولة فلسطين نظراً لوجود أحزاب اليسار بالحكم هنالك .

وهذا ما أدى باليمين الأوروبي الذي لا يستطيع أن يخلع عنه ثوب ثقافة الإستعمار حتى الآن أو الخروج عن فلك السياسات الامريكية، فتتسم مواقفه بالنفاق والكذب والتضليل وحتى بالدفاع عن جرائم دولة الاستعمار الاستيطاني الحديث إسرائيل.

فقد انضمت الحكومة الفرنسية إلى الحكومة الألمانية في التأكيد على أن القانون الدولي بشأن الإبادة الجماعية لا ينطبق على إسرائيل, وبما أن اليهود تعرضوا للإبادة الجماعية، فإن إسرائيل وفق ادعائهم تتمتع بحصانة أخلاقية وقانونية عن أي جريمة حرب !.

إن دعوى جنوب افريقيا في العدل الدولية ضد اسرائيل، دعوى إندونيسيا  ضد إسرائيل في العدل الدولية، دعوى تشيلي والارجنتين في الجنائية الدولية ضد إسرائيل، دعوى في سويسرا ضد رئيس دولة  إسرائيل، كل ذلك بالمقابل يضع إسرائيل في مواجهة سيل من الدعاوي القضائية بتهم ارتكاب جرائم حرب، حتى وإن لم تصدر قرارات فإن تلك الموجة مفيدة من أجل وضع دولة الاحتلال تحت العدالة الدولية وقوانينها.

وفي وقت سابق رفضت الولايات المتحدة أيضًا هذه القضية باعتبارها لا أساس لها من الصحة، ووصف المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر مزاعم جنوب إفريقيا بأنها “لا أساس لها من الصحة”، قائلاً إن “أولئك الذين يهاجمون إسرائيل بعنف هم الذين يواصلون الدعوة علناً إلى إبادة إسرائيل”.

إذن وبناء على تلك الثقافة والمنهج السياسي، فحتى الإبادة الجماعية فإن إسرائيل تختار ارتكابها دون عقاب .!!!

لقد حظيت علاقات إسرائيل مع الأنظمة والأحزاب اليمينية المتطرفة وحتى المعادية للسامية منها أو المؤيدة للنازية "احزاب النازيين الجدد" باهتمام أكبر في السنوات الأخيرة خاصة بأوروبا وحتى بأمريكيا اللاتينية من جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي وخاصة من زعيم التطرف اليميني نتنياهو، رغم فزاعة معاداة السامية التي تشكل إحدى محددات السردية السياسية الصهيونية وتستغلها إسرائيل كأداة في إرهاب الرأي العام في دول العالم .

وتتماشى مصالح الحكومة الإسرائيلية والمتمثلة في كسر إجماع الاتحاد الأوروبي بشأن سياسات مختلفة، بما في ذلك معارضتها لنقل السفارات إلى القدس بشكل جيد مع رغبة اليمين المتطرف الأوروبي في خلق صراع مع بروكسل مركز الاتحاد الاوروبي، وإثارة المشاعر القومية من خلال تقديم قرارات سياسية تتعارض مع تلك السياسات من جانب الإتحاد الأوروبي.

وبعبارة أخرى، فما دامت إسرائيل تبرر أفعالها بالاحتياجات الأمنية فقط، بغض النظر عن أنها ليست حقيقية، فإن العديد من دول اليمين الأوروبي  حتى بريطانيا والتي خرجت من الاتحاد الأوروبي والتي أثارت زوبعة ضد زعيم حزب العمال بتهمة معاداة السامية كونه وقف إلى جانب الحقوق الفلسطينية وناهض سياسات الاحتلال، فأنها ستكون قادرة بل معنية على التعايش مع انتهاكات إسرائيل المنهجية للقانون الدولي وحقوق الإنسان وجرائمها بحق شعبنا الفلسطيني بل حتى وتبريرها بحجة الدفاع عن النفس وفق قاعدة مساواة الضحية بالجلاد في أفضل الحالات والدفاع عن أكذوبة الديمقراطية والضحية.

حتى أن البرلمان الأوروبي فقد تبنى الأعضاء فيه يوم الخميس قرارا يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في الحرب الإسرائيلية ضد حماس، بشرط تفكيك الجماعات الفلسطينية المسلحة في غزة وإطلاق سراح جميع الرهائن الذين تحتجزهم تلك الجماعات ( وفق نص القرار).

وبذلك فأن حتى هذا القرار كان يعبر عن سياسة منحازة لإسرائيل، حيث لم يكن التوصل إلى توافق في الآراء بشأن صياغة القرار مهمة سهلة بعد اعتراض أحزاب اليمين الأوروبي على مقترح النص الأصلي

الذي أكد على ضرورة وقف دائم لإطلاق النار دون الإشارات الأخرى.  فقد تم تبني القرار بعد إقرار التعديل الذي قدمه أعضاء اليمين المحافظون والذين أصروا لتمريره على ضرورة الإشارة إلى تفكيك حماس من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار والدعوة إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن المتبقين لدى حماس .

وتم تبني القرار بعد تعديلات اليمين، وهو غير ملزم للدول الأوروبية أو لسياسات الاتحاد ويعتبر قرار رمزي للغاية، بأغلبية 312 صوتا مؤيدا مقابل 131 صوتًا معارضا وامتناع 72 عضوا عن التصويت.  وهذه هي المرة الأولى التي يتمكن البرلمان الأوروبي من الدعوة إلى وقف إطلاق النار رغم الاصرار على إدانة المقاومة الفلسطينية من خلال الدعوة إلى تفكيكها دون الإشارة إلى ضرورات تفكيك الاحتلال ونظام الابرتهايد الإسرائيلي.

ومع استمرار حرب الإبادة الجماعية ومحاولات فرض التهجير وسياسة الترانسفير، الذي أدى حتى اليوم إلى سقوط نحو 25 ألفاً من أبناء شعبنا إضافة إلى المفقودين تحت الركام وما يقارب من 60 ألف جريح وتشريد وتجويع أكثر من مليوني شخص والاقتحامات والقتل اليومي في مخيمات ومدن الضفة الغربية بما فيها القدس، أصبحت تلك الادعاءات الصهيونية الزائفة تتكشف حول حقيقة هذه الدولة الإستيطانية صاحبة التمييز العنصري والجرائم، وأصبح يتساءل الملايين بالعالم من المدافعين عن مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان ، إلى متى سيستمر هذا؟ وما الذي سيتطلبه الأمر حتى تُوقِع أوروبا بل والمجتمع الدولي العقوبات والمقاطعة على دولة الاحتلال فعلياً حتى يقف العدوان الهمجي وتفرض تنفيذ الحقوق السياسية الوطنية لشعبنا من خلال تحمل مسؤولياتها التاريخية والقانونية والأخلاقية، حيث أن أوروبا ما زالت من جانب آخر تعيش عقدة الذنب تجاه اليهود ودولة إسرائيل التي تعتبر نفسها ضحية التاريخ وفق جريمة الهولوكوست، رغم أن هذه الجريمة النازية من الإبادة الجماعية قد استهدفت الشعوب الأوروبية وعدداً من اليهود الذين عاشوا بالمجتمعات الأوروبية آنذاك رغم تعدد الروايات حول صحة ذلك وأسبابه .

الآن ووفق ما يجري مما ذكرته والتطورات الواسعة الأخرى بالمنطقة وببعض جوانب العلاقات الدولية والجيوسياسية، وعدم قدرتهم على تحقيق ما أعلنوه من أهداف في بداية عدوانهم خاصة بإنهاء فكر المقاومة ودورها، سوى من إيقاع حجم غير مسبوق من الضحايا والتدمير. فإنها لحظات تاريخية تستدعي المبادرة السياسية الفلسطينية الموحدة في إطار منظمة التحرير تُبنى على صمود شعبنا وانجازات المقاومة والتضامن الدولي وتشظي الوضع الإسرائيلي والحالة التاريخية أمام محكمة العدل الدولية وتداعياتها كما والتضامن الدولي غير المسبوق، بتوسيع ديمقراطي لقاعدة المشاركة الشعبية بالقرار ليكون وطنياً خالصاً في مواجهة الضغوطات ومحاولة الاستثمار السياسي الأمريكي لصالح إسرائيل بعد فشلها بتحقيق اهدافها العسكرية.

 

Loading...