منذ بداية حرب إسرائيل الوحشية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وقد مضى عليها مئة يوم، في أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ قيامها، بدا واضحاً أن "حماس" أعدت نفسها جيداً على الصعيد العسكري، لمواجهات حامية وواسعة وطويلة، بالسلاح والذخيرة والأنفاق. ومثل ذلك حصل في استعدادها على الصعيد الإعلامي، ما يفسر أن قواتها تواصل الاشتباك والقصف والبث، في حين لا زالت إسرائيل لم تستطع تحرير أي أسير أو محتجز.
بيد أن "حماس"، في مقابل تمكنها واستعدادها في الجانب العملياتي- التكتيكي، لم تكن مستعدة، ولا متمكنة، بالقدر ذاته، في إدراك وتدارك جانبين استراتيجيين على غاية الأهمية، في تقليل خسائر المعركة والفوز بالنقاط فيها على إسرائيل في هذه الجولة الصراعية الأكثر تدميراً وهولاً بالنسبة للفلسطينيين من كل سابقاتها.
الجانب الأول يتمثل في ضعف تهيئة مجتمعها (كونها سلطة في غزة منذ 17 عاما) لتحمل تبعات الحرب، وفقاً للتجارب الكثيرة السابقة؛ إذ من البداية بدا واضحا غياب أو اختفاء أجهزة الحكومة المدنية، وهو الغياب الذي حاولت أجهزة منظمة "الأونروا" تغطيته بإمكانياتها المتاحة.
الناحية الأخرى، لم يكن ثمة أي جهة من قبل "حماس" تأخذ على عاتقها مسؤولية العمل بين الفلسطينيين الذين يتعرضون للقصف والتدمير والقتل والتهجير من بيوتهم ومناطقهم، وتأمين حدٍ أدنى من الخدمات الضرورية والإغاثية لهم. أيضا، لم تجهز حكومة "حماس" آبار مياه، أو مولدات كهرباء، أو خزانات وقود، أو مستودعات تموين، احتياطية، في مختلف مناطق غزة. فالدعوات للصمود وحدها لا تجدي شيئا في ظروف الحرب.
هكذا فإن حديث إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، مثلا، عن أن حركته تشتغل على جبهتين، الأولى مقاتلة إسرائيل (وهذا صحيح)، والثانية على الجبهة الإنسانية. لكنه هنا لم يوضح كيف، أو ماذا فعلت، أو ما الذي قدمته "حماس" لأكثر من مليوني فلسطيني للتخفيف عنهم إبان مئة يوم من الحرب، على الأقل بالقياس لجهدها الإعلامي اللافت؟
أيضا، في مقارنة مؤلمة وموجعة ومؤسفة، فإن التباهي بإجبار إسرائيل على إخلاء مستوطنات غلاف غزة (ومستوطنات الحدود مع لبنان)، وعدم تمكين المستوطنين من العودة إليها، على أهميته، لا يكفي. فشتان بين إخلاء إسرائيل مستوطنيها، إلى منتجعات وفنادق، للحفاظ على حياتهم، وتجنيبهم ويلات الحرب، وتأمين متطلباتهم، وبين الحال المأساوية للفلسطينيين الذين هاموا على وجوههم، مع حكاية مريرة ومؤلمة ومرعبة لكل واحد منهم.
الخطأ الاستراتيجي الثاني، لـ"حماس" يتمثل في تجاهلها للبعد العربي والدولي أو تعويلها على "وحدة الساحات"، في رهانها على "حزب الله" وإيران. فمن الواضح أن الوضع العربي والدولي لا يدعم معركة ضد إسرائيل، والأطراف الدولية تؤيد الفلسطينيين في إقامة كيان لهم في الضفة والقطاع، فقط، لكنها بالتأكيد ضدهم في ما هو أكثر من ذلك (وهذا لا ينطبق فقط على الدول الغربية، إذ يشمل روسيا والصين والهند أيضا التي لم تخرج فيها مظاهرة واحدة مثل تلك التي خرجت في معظم الدول الغربية).
أما في شأن التعويل على "حزب الله" وإيران، فقد تبين بالتجربة أنه وهم، إذ إن "حزب الله" رصيد للأمن القومي الإيراني فقط، أي إنه يشتغل كجبهة متقدمة للرد على أي تهديد مباشر لإيران، أو كذراع إقليمية لإنفاذ سياساتها في المشرق العربي، كما حصل في سوريا.
والمشكلة أن التجربة أثبتت عقم هكذا رهان، إبان الانتفاضة الثانية (2000-2004)، وفي الحروب الأربع على غزة (2008-2012-2014-2021). وهذا تأكد بعد مئة يوم من حرب غزة، بغض النظر عن الحديث المراوغ عن قصف "حزب الله" شمالي إسرائيل/فلسطين، التي تجري وفق "قواعد الاشتباك"، كما تأكد في تصريحات مرشد إيران ورئيسها ووزير خارجيتها، التي تفيد بنأي إيران عن الحرب، وأنها لن تقع في خطأ استراتيجي بالانجرار وراء حرب تريدها إسرائيل، وهي "حكمة" جديدة، بعقلانية طارئة، للمواربة، وللتملص من الموقف السابق، بشأن التهديد بإزالة إسرائيل وتدميرها، علما أن قيادة "حماس" كانت شاهدة عن أن إيران و"حزب الله" لا يردان على استهداف إسرائيل لهما في سوريا والعراق وحتى في إيران ذاتها.
وعليه، ففي الخطأ الاستراتيجي الأول، نكبة جديدة للفلسطينيين، أقسى من سابقاتها، يفاقم منها عدم قدرة الفلسطينيين في الضفة ومناطق 48 على تقديم أي مساندة عملية، لشعبهم في غزة ضد عدوهم المشترك إسرائيل، ما يفترض تفحص معنى ذلك، سيما بإيجاد شكل كفاحي مشترك ومستدام ويمكن الاستثمار فيه للفلسطينيين من النهر إلى البحر.
أما الخطأ الاستراتيجي الثاني فينجم عنه إنكار الواقع العربي والدولي، الذي لا يسمح للشعب الفلسطيني باستثمار معاناته وتضحياته ونضالاته وبطولاته، مهما بلغت، ما يفترض إدراك حقيقة أن إسرائيل هي وضع دولي، وأن أي رؤية سياسية وكفاحية للفلسطينيين، يفترض أن تنبني على تمكينهم من الصمود في أرضهم، ومراكمة النقاط في صراعهم ضد إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، وعدم تمكينها من تجزئتهم كشعب، وفكفكة قضيتهم، ووأد كفاحهم.
هكذا، فبعد مئة يوم من الحرب في غزة ثمة مئة ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود (تحت الركام) وأسير في المعتقلات (في الضفة أكثر من ثلاثمئة شهيد، وثلاثة آلاف معتقل)، وفوق ذلك ثمة مآسٍ وأهوال لم يشهد الفلسطينيون مثيلا لها سابقا، مع تدمير أكثر من 70 في المئة من عمران غزة، ببناها التحتية وبيوتها، وهي لا تقارن البتة بخسائر إسرائيل، التي تمتلك رغم قلة خسائرها، تعويضاً من قوتها الاقتصادية ومن دعم الدول الغربية لها.
الأهم من ذلك أن إسرائيل لا زالت، بعد مئة يوم، ومعها الولايات المتحدة، تصران على مواصلة الحرب بدعوى عدم السماح بتكرار ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لا من غزة ولا من الضفة، وليس حتى من لبنان، إلى حين القضاء على "حماس" عسكريا، وتدمير الأنفاق، وإخراجها من المشهد السياسي، مع تمرير هدنة، كتوقف مؤقت للحرب، لإتاحة الفرصة للإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين عند "حماس"، مقابل إدخال مساعدات إنسانية، في حين يلوح من وراء كل ذلك هدف تهجير جزء من سكان غزة قسراً أو طوعاً.
في المقابل تتحدث "حماس" عن أن المقاومة بخير وقياداتها بخير، وأنها لا زالت تسيطر على غزة، وأن إسرائيل لم تحقق أهدافها. والمشكلة هنا أن الشعب الفلسطيني ليس بخير من النهر إلى البحر، ولاسيما في غزة، التي تكاد تصبح منطقة غير صالحة للعيش.