مقالات مختارة

جائزة نوبل و"الإخوان المسلمون" في الأردن

 

 

 

الدكتور إسحق موسى الحسيني كان أستاذاً من أساتذة الأجيال ومختصاً بالدراسات اللغوية والأدبية، وخلَّف تراثاً من حوالي 23 كتاباً من تأليفه أو مترجماً. وقد شغل مقعداً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجمع العلمي العراقي، ومجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر. وقد التقيتُ به في الجامعة الأميركية بالقاهرة في شهر سبتمبر/ أيلول عام 1964 لكي أبلغه تحيات تلميذه والدي أحمد العناني والذي درَّسه اللغة العربية بالكلية العربية بالقدس، مسقط رأس الدكتور إسحق. ولما قابلته كنت قد قرأت له كتابين: الأول هو من إصدارات دار المعارف مجموعة أقرأ بعنوان "مذكرات دجاجة". والكتاب الآخر كان موسوماً بعنوان "الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة".

وكتابه عن نشأة حركة الإخوان المسلمين في مصر كانت دراسة رائدة موضوعية. ومن يريد أن يعرف الحركة فلا بد له من أن يبدأ تلك الثقافة بقراءة ذلك الكتاب، الذي طبع عدة مرات، ونسخُهُ متاحة على PDF.

والسبب الذي دفعني لكتابة هذه المقدمة للمقال هو رغبتي في أن أتناول بالبحث الموضوعي ذلك النقاش الحامي الذي دار في الأردن بعدما نشرت أخبار عن أن حركة "الإخوان المسلمين" في عمّان قد تبنت العملية التي تنكر فيها شابان محسوبان على الحركة بالزي العسكري الأردني، ودخلا إلى إسرائيل من جنوب الأردن حيث استشهد الشابان بعدما جرَحا ضابطين عسكريين إسرائيليين. وقد أتت هذه العملية بعدما تأكد استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار في غزة، وسبَّبَ صدمة عاطفية عند كثير من الأردنيين.

وحركة الإخوان المسلمين التي يعود تأسيسها إلى ثمانية وسبعين عاماً في الأردن مسجلة حسب الذاكرة أنها جمعية خيرية. ولما ساءت العلاقات بين حركة الإخوان المسلمين والقيادة المصرية بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر قبل سبعين عاماً (26 أكتوبر/ تشرين الأول العام 1954)، حوكم بعض قياديي الحركة وأعدموا شنقاً. وتفرق الإخوان المسلمون وأتى بعضهم إلى الأردن ليعمل مدرساً أو طبيباً أو مهندساً.

ولما كان الإخوان المسلمون على خلاف عقائدي مع الأحزاب الاشتراكية والقومية، والتي وجدت الدعم من مصر والعراق وسورية، جعلوا الأردن ونظامه هدفاً لهم. ولذلك قام الملك الحسين بعد حكومة سليمان النابلسي عام 1957 وفشل المحاولة الانقلابية العسكرية بإلغاء تراخيص الأحزاب ذات الايديولوجية القومية والاشتراكية، أما حركة الإخوان التي لم ترخص كحزب سياسي، فقد بقيت على حالها واستثمرت خلو الساحة لتوطد علاقاتها مع الأردن، خاصة بعدما ساهم الإخوان في الدفاع عن مصر ضد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي/ الإسرائيلي الذي وقع يوم 29 أكتوبر 1956، أو قبل ثمانية وستين عاماً.

ومنذ ذلك الحين وعلاقات حركة الإخوان المسلمين مع مؤسسات الدولة الأردنية في مدِّ وجزر. وقد عارضت الحركة عام 1994 توقيع اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل، ومن رحمها ولدت حركة حماس في غزة كما سبق وولدت حركة فتح إبان الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة لعدد من الأشهر عامي 1956 وَ1957. ولما حاول نتنياهو قتل القيادي الحمساوي خالد مشعل في عام 1997 أتخذ الراحل الملك الحسين حينها موقفاً صارماً هدد فيه بإلغاء اتفاقية السلام إذا لم ترسل حكومة نتنياهو المنتخب رئيساً للوزراء عام 1996 الدواء الناجع للسم الذي غرسه الوكلاء الإسرائيليون في رقبة خالد مشعل. واشتملت الصفقة أيضاً على خروج قائد حركة حماس الراحل الشيخ أحمد ياسين إلى الأردن من غزة ليتلقى العلاج في مدينة الحسين الطبية التابعة للجيش العربي الأردني.

ولما قاطع الإخوان المسلمون بعض الانتخابات الأردنية، أدى ذلك إلى حدوث أكثر من تصدع في صفوفها فتراجع تأثيرها، خاصة بعدما تراجعت الحركة عن نجاحاتها التي تحققت في دول عربية إبان فترة ما سمي بالربيع العربي. وبعد النجاحات في تونس ومصر والمغرب وغيرها من الدول العربية (السودان وإلى حد ما سورية والعراق).

أما انتخابات مجلس النواب الثانية والعشرون، والتي جرت في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي 2024 في الأردن، وبعد مرور أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة وبعد اغتيال الراحل إسماعيل هنية في آخر يوم من شهر يوليو/ تموز هذا العام، فإن موته عزز حظوظ حزب جبهة العمل الإسلامي، ومنحه (31) مقعداً في مجلس النواب محققاً نجاحاً في الانتخابات الحزبية على مستوى الأردن وحصل على مقاعد يفوق مجموعها المقاعد التي جمعتها باقي الأحزاب التي شاركت في الانتخابات، هذا عدا عن المقاعد التي فازت بها الحركة على مستوى المناطق الانتخابية المحدودة خاصة في المدن الكبرى.

بهذا النصر أصبح حزب جبهة العمل الإسلامي جزءاً من المنظومة السياسية والمؤسسية الرسمية في الأردن. ولحزب الإخوان (أو جبهة العمل الإسلامي) نصيب يبلغ 22% من مجموع المقاعد في مجلس النواب الأردني. ولذلك، يجب أن تأتي قراراتهم من رحم المؤسسة الرسمية الأردنية ووفقاً لمواقفها وثوابتها. وإذا بدأ الحزب يتصرف على أساس أنه مؤسسة سياسية مستقلة ولها الحق في اتخاذ القرارات المناسبة لها، دون إدراك، أو بإهمال متعمد لموقف مؤسسات الدولة، فإنها ستصبح حركة مهددة للدستور ولوحدة الأردن.

وهذا يضع حزب جبهة العمل الإسلامي، بل وحركة الإخوان المسلمين، أمام معضلة. فهي من ناحية مرتبطة بحركة الإخوان المسلمين في العالم، ومن ناحية أخرى هي جزء من المؤسسة الرسمية الأردنية الخاضعة للدستور الأردني وأحكامه والقوانين الناشئة عنه. فإعلان الحرب، حسب الدستور، هو من صلاحيات الملك، ولا يجوز لأحد غيره أن يفعل ذلك. وبالطبع فإن الملك لا يُقْبل على قرار كهذا منفرداً، بل له مستشاروه وقادة جيشه وقواته العسكرية والأمنية، وله حكومته التي تناصر الجهد العسكري واللوجستي. أما إذا بدأت الأحزاب، حتى ولو حققت الأغلبية، بالتجاوز على الدستور والمؤسسات فسوف تجد مقاومة واستنكاراً.

وهذا يقودني إلى نقطة الربط بين المؤسسة من ناحية والنمو والتماسك في الدولة الحديثة من ناحية أخرى. وقد فاز بجائزة نوبل لهذا العام ثلاثة اقتصاديين هم الأميركي من أصل تركي دارون عاصم أوغلو لدراساته عن أسلوب بناء المؤسسات وضمان تحقيقها للازدهار، والثاني هو سايمون جونسون والثالث هو جيمس روبنسون، واللذان فازا حسب لجنة نوبل المانحة للجائزة للأسباب نفسها التي منحت للأول. ويعمل الأولان عاصم أوغلو وجونسون أستاذين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أما الأخير روبنسون فهو أستاذ بجامعة شيكاغو بولاية إلينوي.

وقد أجرى ثلاثتهم معاً وكل على حدة، دراسات ومسوحات كثيرة عن دور المؤسسات وبخاصة الديمقراطية في بناء الدول وتحقيق النماء المطرد. وقد كتب كل من عاصم أوغلو وروبنسون كتاباً عام 2012 موسوماً بعنوان "لماذا تفشل الأمم: مصادر القوة والازدهار والفقر". والكِتاب يقارن بين الدول وبين الأسباب التي تجعل بعض الدول قادرة على الاستمرار، وبعضها يفشل وينهار. ويعزى السبب الرئيسي إلى فشل بعض الدول في إدراك قيمة البناء المؤسسي الذي تتخذ من خلاله القرارات، وتنفذ من خلاله خطط البناء والإعمار والازدهار. ومع أن بعض الكتاب انتقدوا نظرية المؤلفين، إلا أن غالبية الاقتصاديين كانوا يعتبون على لجنة الجائزة بسبب تأخرها في منحها من فترة لهؤلاء الأساتذة.

في ضوء هذه الحقائق، فإن رد فعل الأردنيين على إصرار بعض عناصر حركة الإخوان على الاحتفال بحادثة جنوب البحر الميت على أنها إنجاز يحشد له جاء رافضاً وقوياً، والسبب أن حركة الإخوان الممثلة بحزبها جبهة العمل الإسلامي وبقوة داخل مجلس النواب الأردني قادرة على التعبير عن نفسها من خلال المؤسسة التي حملت الإخوان إلى أهم المؤسسات الديمقراطية وهي مجلس النواب. ولا يجوز لهم أن يستفيدوا من هذه المؤسسة ليصلوا إلى مركز مرموق من خلالها ويكونوا معولاً في هدم هذه الأسس المؤسسية.

ولكن الأردنيين احتفلوا بالعمل الذي قام به أحد أبناء الجازي من قبيلة الحويطات لأنه يعكس الروح الأردنية المستنكرة لبشاعة العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة ولبنان. وهو عمل فردي.

أخطأت الحركة ثم تراجعت عن خطأها، وفسرت نفسها. وهذا هو الإجراء الصحيح. الأردن لم يبخل بأي جهد مطلوب تجاه فلسطين، وما قاله مراد العضايلة، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين، إن حربنا طويلة مع أعدائنا صحيح، وعلينا أن ندبر أمورنا بعقلانية، ونخطط لاستخدام مواردنا وطاقتنا بأجدى وسيلة ممكنة. وحفظ الله أمتنا ممن يتربصون بها.

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...