ما زال الشرق الأوسط يشهد استمرار الصراع على إثر بداية عدوان الإبادة والتطهير العرقي وانتهاك سيادة دول المنطقة، الذي يتداخل فيه دور القوى الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين وحلفاؤهم من إيران وتركيا، إضافة إلى تأثير القوى الإقليمية الصغيرة وبالمقدمة منها السعودية ومصر والأردن وبعض دول الخليج التي تلعب دوراً مهماً في تحديد مسار المفاوضات حول الهدنة الجديدة المقترحة خلال الأيام الماضية ومسار تطور الأحداث. فقد أعلنت قطر أن المفاوضات ستبدأ حول تفاصيل الهدنة يوم غد، لكن هذه المحادثات تشهد غياب مصر، ما يعكس تعقيدات العلاقات البينية في المنطقة وتفاوت مصالحها على ما يبدو.
موقف إسرائيل بين الهدنة والتأثيرات الأمريكية
دولة الاحتلال الإسرائيلي بقيادة نتنياهو الأكثر تطرفاً من بين وزراء حكومته، تبدو مترددة حول قبول هدنة طويلة الأمد، فهي تسعى لاستكمال أهدافها العسكرية والسياسية في ظل تصاعد المعارك مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية وفق الامكانيات المتاحة لهم وهي مختلفة بين الطرفين. من جهة أخرى، يدرك نتنياهو أن تحقيق هدنة مستقرة قد يُكسبه دعماً دولياً، لكنه في الوقت نفسه قد يفضل انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ففوز مرشح يدعم مصالح إسرائيل بشكل أكثر عقائدياً ووضوحاً قد يمنحه مرونة أكبر في التعامل مع السلطة الوطنية والمقاومة المتنوعة بكافة أشكالها في مواجهة المشروع الصهيوني. بالنسبة لإسرائيل، الهدنة تكتيك قد يُستخدم لإعادة ترتيب الصفوف بعد أن أصبحت تكلفة عدوانها مرتفعة نسبياً بشرياً ومادياً ونفسياً، وليس التزاماً طويل الأمد أو ما يشكل أفقاً سياسياً لمفاوضات لاحقة تتعلق بكل الأرض الفلسطينية كوحدة واحدة نحو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، الأمر الذي يرفضه نتنياهو باستمرار جرائمه وعقليته الأيديولوجية كما الأغلبية المطلقة من المجتمع الإسرائيلي بما في ذلك أطيافهم السياسية المختلفة.
الدور الروسي والصيني، مكاسب استراتيجية في صراع متعدد الأبعاد
روسيا ترى في الشرق الأوسط ساحةً لاستعراض قوتها وكسب نفوذ دولي يعزز من موقعها في مواجهة الولايات المتحدة. ومن خلال تحالفاتها مع دول مثل إيران وسوريا، تسعى موسكو إلى تحقيق مكاسب تعزز دورها كقوة عالمية وكمصدر رئيسي للسلاح والطاقة. تدعم روسيا الهدنة من منطلق حرصها على استقرار المنطقة، لكن بمفهوم يتيح لها الاحتفاظ بدورها كوسيط محوري ولاعب أساسي.
الصين من جهتها، تركز على الاستثمارات وتأمين خطوط الطاقة الضرورية لاقتصادها. ومن خلال علاقتها مع دول مثل السعودية وإيران، تحاول الصين تعزيز وجودها في المنطقة بدون تدخل مباشر. ورغم حرصها على الهدنة لتحقيق استقرار يخدم مصالحها التجارية ومشروع الحزام والطريق، إلا أنها تحافظ على حياد استراتيجي يمكنها من الاستفادة في حال تبدل الأوضاع.
الأوروبيون والاستقرار الاقتصادي وأزمة الهجرة
الدول الأوروبية بدورها، تجد نفسها عالقة بين الالتزامات تجاه الولايات المتحدة ومصالحها الخاصة في المنطقة. فهي تسعى إلى استقرار الشرق الأوسط لتجنب تفاقم أزمة الهجرة وضمان استمرار تدفق الطاقة، لكنها تدرك أن دورها مرهون بتوجهات السياسة الأمريكية. لذا، تظل أوروبا تميل إلى دعم الهدنة لتحقيق توازن إقليمي يسمح لها بالتأثير على مسار الأحداث دون الخوض في صراعات مباشرة
موقف حماس بين خلافات الداخل والخارج والموقف الإيراني وتأثيرها على الهدنة
حماس تواجه بدورها تحديات داخلية، إذ يبدو أن هناك خلافات بين قيادتها في غزة وقيادتها في الخارج، خصوصاً تلك المتمركزة في قطر. حماس غزة تميل إلى دعم أي هدنة تكتيكية تتيح لها إعادة تنظيم صفوفها وتأمين لقاء السكان بعد كل المآسي الإنسانية غير المسبوقة التي أوقعها الاحتلال على شعبنا، بينما يعتقد البعض أن حماس الخارج، وبدعم من أطراف إقليمية، تفضل استمرار التصعيد بهدف تعزيز الضغط الدولي على إسرائيل وإتاحة المجال لهم أي تلك الأطراف لامتلاك اوراق تعزز من مكانتها وسط لعبة الأمم بمنطقتنا. هذا التباين داخل حماس قد يؤثر على قدرة الحركة في اتخاذ قرار موحد حول الهدنة، مما قد يُضعف موقفها التفاوضي، وهو الأمر الذي سيتضح خلال ساعات قادمة، وهو يتأثر أيضاً بالتوجه الإيراني في معادلة الردع مع إسرائيل
لبنان بين توازنات حزب الله وحكومة ميقاتي ونبيه بري
لبنان، بوجود حزب الله كفاعل رئيسي لم يتم عزله كما كانت تسعى إسرائيل بعد الضربات القاسية التي وجهت له ينظر بحذر لأي هدنة تُبرم في المنطقة، حيث أن الاستقرار النسبي يمكن أن يُعيد توجيه الأنظار إلى الداخل اللبناني ويزيد من الضغط عليه لاحتواء التوترات الداخلية اللبنانية خاصة مع استحقاق الانتخاب الرئاسي. أما رئيس البرلمان نبيه بري، فيدعم خيارات التهدئة التي تتيح للبنان الابتعاد عن التصعيد المباشر وتنفيذ القرار الأممي 1701 واتفاقية الهدنة لعام 1949، لكنه مدرك أيضاً لحساسية الموقف الذي يفرضه وجود حزب الله على الحدود وما يترتب على ذلك. حزب الله، من جانبه، يعتمد على تعزيز جبهته العسكرية والتأكيد على موقف المقاومة، مما يعني أنه قد يدعم الهدنة بحذر مشروط وبترتيبات محددة تضمن له عدم تعرض قواعده ومناطق نفوذه للخطر، وفي تأكيد ربط المسار مع غزة وإيران.
توازن هش ومصالح معقدة
يمكن النظر إلى الهدنة المقترحة كحل تكتيكي يخدم أهدافاً مؤقتة، لكن لعبة الأمم مستمرة في الشرق الأوسط، حيث تتنافس القوى الكبرى على تحقيق مصالحها وتعزيز مواقعها. وبينما تستفيد كل قوة من هذا التوازن الهش، تظل المنطقة على حافة اضطرابات جديدة، حيث تستمر لعبة الأمم دون حل جذري يحقق السلام المستدام.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال المطروح هو، هل ستثمر هذه المفاوضات عن صفقة هدنة مؤقتة قبل أن تكون شاملة؟ مع تصاعد التوترات الإقليمية واختلاف الرؤى بين القوى الصغيرة في المنطقة، يبدو أن احتمالية الوصول إلى اتفاق طويل الأمد لا تزال بعيدة، خاصةً في ظل رغبة نتنياهو في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي قد تؤثر على قراراته وفي استمرار تنفيذ المشروع الصهيوني باستمرار الحرب. لعبة الأمم مستمرة في الشرق الأوسط، حيث تتشابك المصالح وتتصارع القوى الكبرى والصغرى، ويبقى الشعب الفلسطيني في قلب هذا الصراع، ينتظر بزوغ أملٍ في الوصول إلى وقف عدوان الإبادة والاقتلاع والانسحاب الكامل من غزة أولاً وتنفيذ حقوق شعبنا الوطنية وإنهاء الاحتلال الاستيطاني طريقاً للاستقرار والأمن والهدنة الدائمة.