المبادرة المصرية الحالية تشكل نقطة مفصلية وسط تعقيدات الأوضاع وتضارب المصالح بين الأطراف المعنية، حيث نجد أن إسرائيل تواجه خلافات داخلية بشأن جدوى الدخول في صفقة مقابل خيار التصعيد العسكري. هذه الخلافات تبرز بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، حيث يظهر نتنياهو تردداً في الالتزام بتسوية شاملة ويرى التصعيد المستدام كوسيلة ضغط إضافية، مفاوضات تحت النار بأفضل الأحوال، في حين يميل غالانت للموافقة على صفقة مؤقتة تهدف لاحتواء الأوضاع المتوترة وتعثر رؤيتهم بالحصاد السياسي سوى من التدمير والإبادة.
على جانب آخر، نلاحظ أن موقف حماس ثابت رغم ما ظهر من تباين بالتصريحات، إذ تشترط وقفاً كاملاً لإطلاق النار وانسحاباً إسرائيلياً قبل الخوض في أي اتفاق، وهذا شرط يضع ضغطاً إضافياً على الوسطاء ويعقّد المفاوضات، لكنه يربط الصفقة بإنجاز قد يتحقق على الأرض من ضرورة انسحاب قوات الاحتلال ويخفف من المأساة الإنسانية المتصاعدة خاصة بشمال غزة من الجرائم والمحارق، فلا معنى برأيي من الهدنة بالشروط الإسرائيلية التي أعلنها نتنياهو لأهل غزة العزة، إلا أنهم أدرى بشعابهم مني.
بالنسبة للموقف الأمريكي والقطري، فإنه يبدو أن هناك انحيازاً أمريكياً للتصعيد، إذ يرى الأمريكيون أن الضغط العسكري على حماس وحزب الله قد يحقق أهدافهم الإقليمية ويوفر لإسرائيل مساحة مناورة أوسع خاصة في شأن إقامة مناطق عازلة. قطر من جهتها، تُظهر اهتماماً واضحاً بدور الوساطة وتدعو لتفاهمات تضمن وقف التصعيد، لكنها تدرك حدود تأثيرها في ظل الموقف الأمريكي.
أما في حال حدوث رد إيراني على ما قامت به إسرائيل من اعتداء قبل يومين، فإنه سيؤدي بلا شك إلى تلاشي أي حديث عن صفقة أو تهدئة، لأن الرد الإيراني من شأنه أن يوسع دائرة الحرب بشكل كبير ويضع المنطقة على شفا مواجهة إقليمية شاملة سببها دولة الاحتلال.
حزب الله بدوره، سيكون موقفه متناغماً مع القرار الإيراني، إذ يرتبط دوره الاستراتيجي بالتحالفات الإقليمية وقرارات إيران التي تسعى لتعزيز مكانتها كلاعب مقرر في مستقبل المنطقة وتحصيل أفضل الشروط حول مسألة ملفها النووي. ولذلك فمن المرجح أن يبادر الحزب بتصعيد أكبر ضد إسرائيل في حال حدوث رد إيراني رغم ما تعرضت له من ضربات موجعة لكنها لم تعزله كما سعت إسرائيل لذلك.
بناءً على هذه المعطيات، يمكن القول أن احتمالية التوصل إلى صفقة تتراجع كلما زاد التصعيد وتعنت نتنياهو العقائدي والسياسي التوسعي، فيما يبقى القرار النهائي لهم مرهونا بمدى استعداد الأطراف المعنية لتحمل كلفة المواجهة الشاملة، وتحديات حسابات الأطراف المختلفة في ظل تصاعد الخلافات الداخلية والتضاربات في المواقف.
من جانب آخر، فإن الانتخابات الأمريكية القريبة المقبلة تشكل عاملاً مؤثراً في مواقف نتنياهو وتوجهاته، حيث يبدو أنه يراهن على فوز دونالد ترامب، الذي يُتوقع أن يتخذ مواقف أكثر تشدداً ودعماً لإسرائيل لأسباب أهمها عقائدية، بالمقارنة مع سياسة إدارة بايدن-هاريس التي تُظهر بعض التردد في دعم سياسات نتنياهو المتشددة بشكل مطلق لأسباب براغماتية تتعلق بمصالح الولايات المتحدة حول رؤية الشرق الأوسط الجديد ومواجهة تنامي النفوذ الصيني والروسي، في وقت تشتد به المنافسة إلى حد تساوي الأصوات المتوقعة بين هاريس وترامب.
وبالتالي، قد يسعى نتنياهو إلى كسب الوقت وتأجيل أي تحرك استراتيجي كبير حتى نتائج الانتخابات الأمريكية على أمل أن يتمكن ترامب من تقديم دعم أوسع يعزز موقفه ويقلل من الضغوط الدولية عليه من جهة، ومن وزير دفاعه جالانت الذي يصف الحرب بأنها باتت دون أهداف.
ومع ذلك، فإن هذا الانتظار يحمل في طيّاته مخاطر كبيرة لإسرائيل، لا سيما مع تزايد الخسائر الإسرائيلية البشرية والمادية غير المسبوقة في تاريخ دولة الاحتلال، مما يضع نتنياهو تحت ضغطٍ داخلي، خصوصاً مع تزايد المخاوف لدى الجمهور الإسرائيلي من استمرار الحرب لفترة أطول وتكبد المزيد من الخسائر الذي لم يعتاد عليه المجتمع الإسرائيلي من جهة، وخوفاً من تأثيرات دولية على إسرائيل تجاه موقفها من استمرار الحرب ومن رفض إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمتواصلة جغرافيا كوحدة واحدة على كل الأراضي المحتلة عام 1967 كجزء من الحقوق غير القابلة للتصرف لشعبنا الفلسطيني، الأمر الذي يشكل جذر المشكلة والصراع بالشرق الأوسط.
أما عن الموقف الروسي، فإنه معقد بسبب وجود أسرى يحملون الجنسية الروسية كما الإسرائيلية بين المحتجزين لدى حماس. من المتوقع أن تستخدم روسيا هذه الورقة لممارسة ضغوط دبلوماسية على إسرائيل، وربما توجيه الانتقادات لتعزيز موقفها في المنطقة كوسيط محايد يراعي حقوق مواطنيها. كما أن روسيا، في ظل سياستها الحالية، تميل إلى تقليل النفوذ الأمريكي وتعزيز تحالفاتها في الشرق الأوسط، ومن المحتمل أن تستغل الأزمة لتقوية علاقتها مع دول مثل إيران وتركيا والسعودية، مما يجعلها أكثر ميلًا لدعم تهدئة تخدم مصالحها وتحفظ ماء الوجه لحلفائها في المنطقة خاصة وأنها تتبنى مواقف مؤيدة لحقوق شعبنا الفلسطيني.
الصين أيضاً، وإن كانت تتبنى سياسة عدم التدخل المباشر، إلا أنها تظهر دعما ضمنياً للاستقرار الإقليمي خاصة لمصلحة مشروعها الحزام والطريق وتقليل التأثير الأمريكي، وقد يكون لها دور مؤثر في الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لاحتواء التصعيد.
في ظل هذا المشهد المعقد، قد نشهد تكتيكات محدودة من الأطراف المختلفة للحفاظ على مواقفها وانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية. إلا أن التصعيد سيظل محتملاً خاصةً إذا واجهت إسرائيل ضغوطاً داخليةً كبيرةً أو إذا شعرت أطرافٌ إقليمية وخاصة إسرائيل بضرورة فرض معادلات جديدة على الأرض وفق ما يجري بغزة وجنوب لبنان من جرائم الاقتلاع والأرض المحروقة لضمان مصالحها الاستراتيجية وخاصة المناطق العازلة وتوسيع حدودها قبل أي تحولات سياسية في واشنطن أو المحتملة في تل أبيب.