المُثَقَّفُ والمُقَاوَمَة

 

خاض العديد من الكُتّاب في أمر المثقف وعلاقته بالسُلطة أو الجماهير وتناولوا دورَه وما ينبغي القيام به وأسهبوا في وضع المواصفات له، وأشبعوا "غرامشي"، على سبيل المثال، تحليلاً وذِكراً، وألحفوا على مفهوم الالتزام والاصطفاف مع المقاومة. وما فتئ الكلام يتفجّر هنا وهناك.

ونقول؛ ثمة تحالفٌ والتحامٌ عميقٌ وطبيعيٌ بين المثقف والثورة، بمعناها الواسع. ولا يمكن للمثقف أنْ يستحقّ هذا اللقب ما لم يكن منحازاً كليّاً، ومن دون شروط، للشعب ولقضاياه، في مواجهة كل الأعداء، وهذا لا يرتبط بوقت محدد أو بزمن الثورة والمقاومة، بقدر ما ينحاز المثقف دائماً لشعبه وتطلعاته، منشغلاً بأمرين على الأقل: أولهما الاصطفاف مع الناس دون تردد أو تبرير، وثانيهما أن يعبّر بإبداعاته عن روح (شعبه)أي الناس وأحلامهم، بعيداً عن الفصائلية والجهوية وأهواء السياسيّ. وأعني بالمثقف هنا كل من انشغل أو اشتغل بالإبداع، دون إغفال لأي صورة من صوره.

ولعل المثقف الذي ما زال محاصراً من السلطة والأحزاب ورجال السياسة والعشائرية والجغرافيا والدّين الوظيفيّ والمتطرّفين، قد تمّ امتصاصهُ واحتكاره من "السلطات" التي تمارس كل أشكال الترويع والإجهاض والاستلاب. بمعنى أنه يتمّ إجهاض المثقف بوضعه في قوالب من الرتابة والتقنين، كما يتمّ إلزامه تحت وطأة الوظيفة، والسعي إلى لقمة العيش، والخوف على وظيفته، كما يتمّ فرض الصيغ السياسية والاجتماعية والفكرية عليه، ليؤمن بها ويتبنّاها ويقوم على تعميمها.

غير أني أرى مع الكثيرين أن ثمة ثلاث ثقافات: ثقافة سلبية، وأخرى تشاركية، وثالثة مُبادِرة، ويكون المثقف أقرب إلى المبادِرة والتشاركية عندما يجترح إبداعه وهو على مسافةٍ بعيدة من كل السلطات السياسية واللغوية والفكرية الجاهزة والمُعدَّة سلفاً والمبذولة والفاشية.

 والمثقف الذي عاش دون روافع وقوانين تحميه وفضاء حُرّ، يناضل حتى يتحقق هدفه، ذلك لأن الإبداع هو الأرض الأخيرة التي يمكن أن يحلم عليها، ويتطلع ليرى مبادئه وتطلعاته على طريق التحقّق والحضور.

ويكون المبدع أقرب إلى الحريّة عندما يواصل دوره في الاصطفاف مع الناس والتعبير عنهم، أي أن الإبداع هو الحرية. أما إذا توقف المبدع عن مهمّته، فإنه يتوقّف عن الحرية، ويدخُل في عتمة العبودية، أقصد عبودية الواقع المحكوم بقبضة النظام المُتسلّط، أيّاً كان!

وفي كل مقاومة نراها، وتتغيّا مواجهة الاحتلال أو النظام القمعي.. من البديهي أن يقوم المبدع، بصفاته الحاسمة، بالوقوف معها ومع الناس دون سؤال. ويكون خطاب المثقف متجاوزاً للتنديد والاستنكار والتقرير العاجز، بل يجب أن يغوص في لبّ النار، ليحرّك عقاربها ويدلّ عليها، ليقتلها، وأن يشحذ الأرواح، ويفتح الجبهات على اتّساعها اللاهب والمضيء. لهذا يبدو مُستغرَباً عندما يصطف المبدع مع النظام أو العدوّ، أو يبرر لهما، أو يشكك في مَن يقاوم، لأن المبدع، هنا، يفقد الجانب البدهي والتلقائي والطبيعي لمتطلبات موقفه. ويكون المبدع هنا، أيضاً، إمّا خاضعاً للترغيب أو الترهيب، بمعنى أنه يكون قد تم شراؤه أو إسكاته بالقوة وتهميشه. وإذا تمّت عمليه شرائه، فإن المبدع يكون قد فَقَد الركيزة الأهم من مواصفاته وهي "الضمير"، وبغيابه يفقد صفة الإبداع، لأنّ محتوى إبداعه يكون مزيّفاً وغير حقيقي ومخاتلاً ومرائياً، أو تنفيسيّاً في أحسن الأحوال. أما إذا تمّ تكميمه وملاحقته، وخَضَع، فإنه يكون قد فَقَد إحدى أهم صفات الإبداع، وهي القدرة على المواجهة والاختراق والنفاذ والتحدي، وهي الجسارة العقائدية أو الشجاعة الفكرية والتجاوز.

ورأينا كثيرا من المثقفين “مستقلّين" لم ينبسوا بحرف واحد أمام ما يجري، ولا علاقة، بينهم وبين الأحداث المهولة الجارية! ما يجعل هؤلاء، مُسخّرين ومأجورين للمؤسسة الضاغطة المشبوهة، ويؤدّون دوراً تجميليّاً لها! ويتركون فراغاً جارحاً. والغريب، هذه الأثناء، أن عدداً "مهماً" من المثقفين يتماهى ويتبنّى ويقترب، حتى التوحّد، مع مقولات الغرب الاستشراقية والكاذبة والظالمة، بحثاً عن فُتات. ما يجعل هذا المثقف فارغاً، تماماً، من مضمونه، ومغترباً عن جذوره. وقد ظنّ هؤلاء أن اعتراف الثقافة المهيمنة بهم، سيحقق لهم الحضور! لكنّهم يتناسون أن على المثقف أن يكون ضمير شعبه، والمعبّر عن تطلعات وأحلام أُمّته، لأنه ليس مستقلّا أمام المجزرة، وليس لديه بذخ الحياد، وسيفقد صلابته الأخلاقية، وسيسأله التاريخ. ولا حاجة لنا بوعْيه المعرفي وبمعانيه الثقافية وباقتراحاته الجَمالية..

كما أن انحياز المبدع مع أهله وجمهوره لا يكون مجرد تعاطف، بقدر ما هو موقف راسخ ومبدئي وحاسم، يجب أن يتجلّى، وفي كل الأحوال.

وغالباً ما يكون المبدع الحقيقي الشجاع قد اصطف، مع الثورة، وهي في إرهاصاتها الأولى، لأن هذا مكانه الطبيعي ودوره المُنْتَظر منه، لأن الجمهور ينظر إليه كصاحب طبيعي لهذا الدور، وليشكل رافعة وموجّهاً ومسانداً وشاحذاً ومسُتَقطباً للجمهور، وهنا يكون المبدع طليعياً، يكرّس هذه الصفة لنفسه، ويستحقها بجدارة. أما المبدع في مرحلة الثورة وخلال تفجّرها، فيكون في مرحلة فَرْز جديدة، لأن الأمر لم يعد تنظيراً واتخاذ موقف كلامي أو تضامن مجانيّ، بل انخراط مباشر وحميم في الثورة نفسها، جنباً إلى جنب مع كل الناس، وبما يتميّز به المبدع من قدرات مختلفة. فإن كان موسيقياً، فعليه أن يعزف للثورة، وإن كان شاعراً، فلينشد لها، وإن كان مُنظّرا فليقف معها دون مواربة أو التباس، وإن كان ممثّلاً، فليجعل الساحات مسرحاً له ولجمهوره، تعميقاً لعلاقته معهم وانصهاره بكل تفاصيلهم. وهنا لا يجوز الاكتفاء بما اتّخذه من مواقف نظرية قبل الثورة، وإلاّ فإن المبدع سيبدو بوجهين، أو أنه يسوّق كلاماً دون رصيد، وأنه سقط في أول امتحان عملي.

ولننتبه إلى أن الوعْي الجمعي أثناء الثورة هو وعْي مميّز، ويختلف عنه في الحالات النمطية والرتيبة، لأن الوعي في الحالات العادية قد يكون موُجّهاً أو مُضلّلاً من الإعلام أو غيره، ولكن في مرحلة الثورة والمقاومة والمواجهة، يكون الوعي نابضاً حيّاً حُرّاً ويقظاً، وبالتالي فإن الموقف الذي يعبّر عنه ليس تفتيشاً في الضمائر، وإنما فرْز يمتلك الحقّ بالردّ الحاسم الخالي من المجاملة أو الوسطية أو التبرير، أي أنّ الوعي الجمْعي من حقّه أنْ يردّ على أولئك الذين شيْطنوه وشوّهوه واتّهموه بالرذائل والعبث والمغامرة، مراءاة للحاكم أو الاحتلال، أيّاً كانت مبرراتهم ومرافعاتهم التعيسة. فالأمر ليس خلافاً على الرأي أو القناعات، وإنما فرْز بين الحق والباطل. ولا مجال للقول؛ إن هذه هي حرية رأي، أو من حق كل مواطن أو مبدع أن يتخّذ الموقف الذي يراه مناسباً أو يصطف هنا أو هناك، لأن الحريّة قيمة سامية لا تكون إلاّ مع الحقّ، وفي مواجهة الباطل.

إنّ المواقف المنكسرة لبعض "كبار المناضلين المبدعين المفكرين" تنمّ عن تشقّق أصيل في شخصية هؤلاء، وأن حمولتهم المعرفية هي أشبه بحمولة الخُرج على ظهر الحصان، أو أقرب إلى جِراب الحاوي منه إلى المُفكّر أو المُوجِّه الحريص، لأنه "يتَمَسْخَر" بالمنطوق الفلسطيني، ويحاول أن يضحك على ذقون البسطاء في تغطية حقائق لا يمكن تغطيتها..

وأسأل: مَنْ أين يأتي هؤلاء بثقافتهم وإبداعاتهم ومواقفهم، إن لم تكن نابعةً من أصالة وحقّ مجتمعٍ حيٍّ وعريقٍ ومنطلق؟ هل كان ينتظر هؤلاء أن تخرج المقاومة من صالات التنسيق والغرْبنة والاستلاب، أو من فضاءات الحكّام المُطبّعين، أو الوارثين النّاهبين ثروات وتاريخاً أكثر سواداً من العتمة والفحم؟ أم أنّ على المقاومة رَفْع شعارات المموّلين والمصالح المكشوفة أو السقوط المدوّي في الطائفية ومصالح بعض دول الإقليم ونظريات القَطْع وقتل الأب أو تنقية التاريخ؟

إنّ الفلسفة، بشكل عام، هي أحد تجليات الوعي الإنساني، لكنها ناتجة، أصلاً، عن فهم عميق يوصل بين الخاص والعام، فيما نرى هنا "المفكر المبدع" المنكسر يشطب هوية الذات، وهي الخاص، ويلغيها، ويخرجها عن جذورها الحقيقية العميقة، ويريد أن يحلّ مكانها فلسفة البعيد والعام البشري، أو استقدام الإنسانيّ في عدوّه، بدعوى عدم تأبيد الصراع.. التي هي غير مجزّأة أصلاً.. فلكل فلسفة جوهرها الخاص، بمعنى أن ثقافتنا ومقاومتنا وفلسفتنا تنبع من ذاتنا، وتتخلّق في فضائنا بتشابكها مع محيطها، لتصل إلى الإنساني بنكهتها وملامحها الخاصة، وبما يحقق تطلعاتها العادلة.

 

كلمات مفتاحية::
Loading...