بين الديمقراطيين والجمهوريين، استمرار الثوابت السياسية وتغييب التغيير في الشرق الأوسط

المرشحون الثلاثة.. ترامب، هاريس، وجيل ستاين

 

 

تعتبر إسرائيل أكبر متلقٍ تراكمي للمساعدات العسكرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قدمت إدارة بايدن الحالية الديمقراطية، التي تشغل فيها المرشحة كامالا هاريس منصب نائب الرئيس إضافة إلى كل أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي من الحصانة، ما لا يقل عن 17.9 مليار دولار كمساعدات عسكرية خلال العام الماضي وحده وأثبتت أنها شريكة بالمطلق في كل الجرائم المتقادمة والجارية بحكم المسؤولية.

هاريس لا يُمكنها امتلاك خطة للسلام

الآن يواجه الحزب الديمقراطي تحديات داخلية، حيث تُعبر الأقليات والمجموعات المؤيدة للحق الفلسطيني عن استيائها من السياسات الخارجية للحزب والإدارة، التي لا تزال تُعطي الأولوية للتحالف مع إسرائيل على حساب قضايا حقوق الإنسان والقرارات الدولية والقانون الدولي. على الرغم من تصريحات بعض التقدميين بالحزب الديمقراطي مثل رشيدة طليب وبيرني ساندرز الذي وجه أمس نداءً يفاضل به هاريس عن مخاطر ترامب ويدعو إلى التصويت لها وفق طلبا من هاريس على ما يبدوا باعتقادي لتبرير هروبها من استحقاقات مطالب وجهها لها فلسطينيين ومناصري الحق الفلسطيني من أمريكيين وجنسيات أخرى خلال الفترة القريبة الماضية والمتمثلة في استخدام مصطلح الإبادة الجماعية والالتزام في حال فوزها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 بما فيها القدس الشرقية وعدم إعاقة ذلك بالمنظمات الأممية، الأمر الذي لم تنفذه ولم ترد عليه وفق معلوماتي حتى الآن بل وتم إيقاف الاتصالات التي كانت جارية بين إدارة حملتها ومجموعات الحق الفلسطيني متعددة الأصول. حيث قال بيل كلينتون اليوم بأن كاميلا هاريس لا تملك خطة للسلام بالشرق الأوسط، كما ولا يمكنها امتلاك واحدة.

رغم أن الذين يدعمون علناً حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية من بين أوساط الحزب الديمقراطي والملتزمين مع هاريس، فإن تأثيرهم بحكم تركيبة الحزب والمصالح يبقى محدوداً أمام القوى الداخلية المؤثرة والمقررة في الحزب الديمقراطي وفي الدولة العميقة، والتي تشكلها التحالفات بين المجمع الصناعي العسكري والشركات المتعددة الجنسيات القريبة من الحزب الديمقراطي، إلى جانب المجموعات القومية والدينية المحافظة والمحافظين الجدد من الحزب الجمهوري.

ولو كان الأمر غير ذلك لما كنا قد عايشنا جرائم الإبادة والتطهير العرقي والمحارق الجارية الآن بحق شعبنا، كما شاهدناها في السابق في لاوس وفيتنام وتشيلي والصومال ولبنان والعراق وأفغانستان واليونان وقبرص ويوغسلافيا والبلقان وغيرها من الدول التي تبدل على اقترافها الحزبين.

الانتخابات وتأثير المرشحة الثالثة جيل ستاين

يَطرح ترشُح جيل ستاين الجريء عن حزب البيئة والخُضر بُعداً جديداً في الانتخابات الأمريكية اليوم، حيث تدعو مواقفها الواضحة كيسارية تقدمية، والبعيدة عن تأثير الحزبين الرئيسين وهي المؤيدة بوضوح للحق الفلسطيني ورفضها للسياسات الخارجية التقليدية الأمريكية، إلى تأمُل أعمق من قبل الناخبين المعارضين لتلك السياسات من جانب الحزبين على مدار العقود الطويلة الماضية. وعلى الرغم من انعدام فرص فوزها، فإن دعم الأقليات ومنهم الفلسطينيين والمجموعات اليسارية التقدمية لها لن يكون دون جدوى بالمعنى السياسي، لا بل قد يرسل رسالة واضحة للحزبين بأن أصوات الناخبين التقدميين والأقليات اللاتينية والمسلمة والعربية ومنها الفلسطينية ليست مؤمنة تلقائياً دون ثمن تحديداً للحزب الديمقراطي كما يرغبون بأوساط الحزب، بل يجب أن تُكتسب بقرارات سياسية ملموسة من جانب الحزب الديمقراطي بوقف المحرقة فورا وإنهاء الاحتلال إن أراد هذا الحزب وهاريس أن يحصلوا على دعم تلك المجموعات التي أصبحت تتنامى اليوم. فما زال امام هاريس وبايدن وحزبهم القليل من الوقت الضائع إن أرادوا إثبات ذلك والإعلان عن المواقف المطلوبة منهم بوضوح. الأمر الذي قد يدفع حسب معلوماتي لانسحاب جيل ستاين من سباق الانتخابات بالولايات المتأرجحة السبع إذا اعلنت هاريس علناً ما هي مطالبة به.

المرشحة جيل ستاين تسعى للحصول بفضل الدعم المتزايد لها وفق مواقفها المعلنة على نسبة 5% من الأصوات حتى تتمكن لاحقاً من الحصول لصندوق حزبها المالي -الخُضر- على موازنة من الولايات المختلفة تقدر بخمسين مليون دولار مما سيساعد بنجاح تأسيس تيار ثالث تقدمي يساري اجتماعي بالولايات المتحدة. أقول ذلك بغض النظر عن بعض المواقف من هنا وهنالك التي تدعوا إلى انتخاب مجاني لكاميلا هاريس دون التزامات منها واضحة، تلك الأصوات المنادية بذلك ترى الامور من زاوية السيء والأقل سوأ فقط وترى أن أي صوت لجيل ستاين هو صوت يساهم في فوز ترامب، وهي أي تلك الأصوات التي لا تؤمن بالتغيير الجذري وبأن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة أولى تحتاج إلى إعادة النظر بجرأة في مواقفها. هذه الأصوات لا تريد الاتعاظ من مقولة أن المؤمن لا يجب أن يُلدغ من نفس الجحر مرتين بل ومرات عديدة متثملاً بسراب الوعود الأمريكية البشعة والكاذبة من الحزب الديمقراطي. وهو ما يذكرني بكتاب صدر عام 1958 وأعيد طباعته هذا العام كان والدي يحدثني عنه كثيراً بعنوان "الأمريكي البشع" لكاتبيه وليم لدرر مسؤول وكالة المخابرات الأمريكية سابقاً في زمن عدوانهم على فيتنام والصحفي يوجين بورديك، وقد وصفوا به عقلية الدولة العميقة وتحديداً في معاداتها لحريات الشعوب وثقافة الحكم لدى الحزبين، فلم يتغير شيء منذ ذلك التاريخ حتى اليوم سوى مصطلحات وأسماء جديدة ومزيداً من الكراهية لحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف.

تأثير الدولة العميقة على السياسة الخارجية

لا يزال تحديد السياسة الخارجية الأمريكية أسير ورهين الدولة العميقة التي تشمل المؤسسات ومجمعات الصناعات العسكرية والمالية والشركات العملاقة متعددة الجنسيات القريبة من الحزب الديمقراطي بشكل عام لأسباب فكرية وايدولوجية تتعلق بمنهج الليبرالية الجديدة التي يريدون لها أن تحكم العالم باستمرار النظام الأحادي. هذه المجموعات والتي تمثل بمجموعها المصالح الاقتصادية والعسكرية الكبرى والتوازن مع النفوذ القومي والديني الذي يسود الحزب الجمهوري، الذي يدفع بسياسات صارمة في قضايا الشرق الأوسط وشعبوية على مستوى العالم سنداً للمنهج العقائدي القومي "أمريكيا أولاً " الذي يركز عليه ترامب. لذا، فحتى لو وصلت هاريس إلى سدة الرئاسة بعد أيام، فإن الفرص للتغيير الحقيقي في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ستبقى محدودة، لأن الرئيس الأمريكي وحده لا يمكنه تحدي هذه التوازنات الراسخة في النظام الأمريكي كما ثبت ذلك في أحسن الحالات خلال فترة رئاسة الديمقراطيان كلينتون وأوباما، إضافة إلى أنه وفي زمن الإدارة الديمقراطية خلال السنوات الأربع الماضية، فقد فاقت أعداد من قتلتهم الولايات المتحدة بالعالم عن ما سبقها في فترة ترامب وكذلك زاد الاستيطان بفلسطين بعد أن كان ترامب من جهته أعترف بضم القدس والجولان.

المآلات المتوقعة بين ترامب وهاريس

بينما تمثل كامالا هاريس الأمل في السياسات التقدمية لبعض أعضاء من الحزب الديمقراطي القلائل في وقت ينتمي العديد منهم وبالمقدمة بايدن وبلينكين إلى الحركة الصهيونية العالمية، فإن دعمهم لها يأتي أحياناً من منطلق رفض سياسات ترامب المحافظة والمزعزعة للاستقرار وتحديداً بشأن القضايا الداخلية الأمريكية أو الخارجية التي قد تكون مبنية على صفقات أو حدة مواجهة مع روسيا والصين تحديداً في مكانة وسط شرق أوروبا والشرق الأوسط وتايوان من جهة وإثارة نزاعات قديمة جديدة جيوسياسية بمناطق أخرى من العالم.

من جهة أخرى، هناك تخوف واسع من عودة ترامب، حيث يرى الكثيرون أن سياسته الشعبوية وتصعيده في النزاعات الدولية قد يؤديان إلى أزمات داخلية جديدة كما حدث بالانتخابات السابقة وربما شكلاً من النزاعات الأهلية وعالمية ليس فقط سياسية بل أيضا اقتصادية وتحديداً حول واقع مكانة الدولار بالتبادلات التجارية الدولية خاصةً بعد اللقاء الذي جرى مؤخراً لدول مجموعة البريكس في روسيا قبل أيام. لكن في النهاية، يدرك كثيرون أن الولايات المتحدة تُحكم عبر توازنات معقدة من المصالح المختلفة، بحيث يبقى كل رئيس بمثابة منفذ لسياسات أوسع تُحدد في أروقة الدولة العميقة، التي تنظر لمصالحها الإستراتيجية بتفوق على أي اعتبارات أخرى.

التحولات والتيار الثالث التقدمي

إذن، ورغم أن الانتخابات الرئاسية تشكل فرصة للتغيير كما أنها تشكل نقطة مفصلية على مستوى العلاقات الدولية، إلا أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط محكومة بثوابت يصعب تجاوزها. دعم مرشحين مثل جيل ستاين لا يُعبر فقط عن احتجاج رمزي على سياسة الحزبين، بل يشكل برأيي دعم مبدأي وأخلاقي وسياسي من مؤيدي الحق الفلسطيني ورداً لجميل مواقفها، كما ويمثل خطوة نحو ضرورة خلق وعي سياسي أوسع بل وممكن نحو تيار سياسي ثالث هنالك جماهيري قد يستطيع المنافسة بعد سنوات وكسر احتكار الحزبين. إلا أن إحداث تغيير حقيقي في السياسة الخارجية الأمريكية يبقى تحدياً صعباً بحسب ما أشرت له ووفق محددات العلاقة الإستراتيجية التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل من حيث المنشاء العنصري الذي قام على الاقتلاع العرقي بالمكانين والفكر العقائدي والديني لدى الكثير من المسيحيين الأصوليين الإفنجيليين والمتجددين في الولايات المتحدة، كما والسياسي النيوليبرالي المتوحش والحضاري الذي يرى في إسرائيل كمستعمرة غربية استيطانية بالمشرق العربي تشكل خط الدفاع الأول عن الحضارة الغربية أمام مخاطر الشرق الحضاري. بالنهاية أقول أن الأمور لن تبقى على حالها، وما يجري في منطقتنا سيُفشل مخططاتهم حول إسرائيل الكبرى التي لن يتمكن نتنياهو من تنفيذها وحصاد نتائج سياسية كما يريد هو والإدارة الأمريكية التي ترغب لإنقاذ إسرائيل من وسط الوحل، رغم تحقيقها جرائم لم يسبق التاريخ أن شاهدها. كما وأن هذه المجريات والتطورات بتنامي التيار الثالث بعد نتائج انتخابات بريطانيا/حزب الخضر وفي فرنسا وفي اليابان وغيرهم من الدول وفي بعضها لتحالفات اليسار، وإدراك المجتمع الدولي الشعبي بل والرسمي لبعض الدول المترددة لطبيعة دولة الاحتلال الاستعماري الإحلالي وسقوط نظرياتها المدعومة أمريكياً بحكم الشراكة بفائض القوة وتفوق الردع، سيسارع من وجهة نظري بالمتغيرات على مستوى الإقليم والنظام الدولي ليكون أكثر عدالة بعد مخاض صعب وشاق وكثير التضحيات.

 

 

 

Loading...