تحت ظل الخيمة ــ مهند الأخرس

"من يكتب يقاوم ومن يقاوم ينتصر"

 

 

 

"منذ الظهور الفدائي الأول في المخيمات، تغيّر المخيم واشتد عوده وكأن شيئاً من روح البلاد عادت تسري في روحه، أصبح المخيم قاعدةً ثوريةً ومحطة انتظار للعودة."

تلكم هي ذي هوية المخيم كما عرّفها الكاتب الفلسطيني مهند الأخرس في سيرة ذاتية وغيرية وزمكانية بعنوان "تحت ظل الخيمة" الصادرة عن اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين 2024.

امتشق مهند القلم ليكتب المخيم، فالكلمة الطلقة منذ البدء كانت الثورة، ومَن غير المكلوم يكتب الجرح ومَن غير المنفي يكتب الوطن! يقتسم معنا المخيم ونحن أبناؤه ويسرد سيرته مستحضراً دهشة المتلقي لكأني به نعيش معه لحظاته ونلج معارج المخيم وزواريبه، نتنسم رائحة الزعتر والقيسوم ليسيل نسغ فلسطين من شبابيك البيوت وحواكيرها. في المخيم سيرة وحكاياتُ عِز جاءت على ألسنة رواتها، ودائع عزيزة أودعها الآباء قلوب الأبناء؛ سيرة الشهيد الذي لا قبر له، حكاية تختزل وجع الفلسطيني الذي "لا يصل الحبيب ـ فيها ـ إلى الحبيب إلا شهيدًا أو شريدا" كما قال درويش.

لعلي أغبط الكاتب على ما فاضت به ذاكرة المخيم وأنا ابنة مخيم اسمًا لا شكلًا؛ فمخيمي أضحى بيوتًا عامرةً بصور القادة القوميين قبل أن أطلق صرخة الحياة على يد جدتي اليافية في مخيم العودة في مدينة الزرقاء، جدتي التي أبت أن تحمل من بيتها اليافيّ أي مقتنىً أملًا بالعودة المحتومة بعد أسبوع أو أسبوعين على الأكثر. نعم أغبطه على معاناته التي استحضرت نزرًا يسيرًا من معاناة جيلنا المنذور للمنافي حيث نشأنا فلسطينيي الهوى والهوية ومخيَّميي السكن والعنوان.

الحق أقول أن هاجسًا تلَبَّسني حينما جُلْتُ بين السطور ومعارج الكلام وأنا ابنة هذا الحنين الشائق والشيِّق أحمل ذات الهوية ورصفَتْ وجداني ذات التجارب إذ خشيت أن أنتقص من عظمة هذا العمل التوثيقي الذي يرصد فيه الكاتب مرحلة من مراحل المد الثوري في مساحة تفيض انتماءً وثورة اسمها "تحت ظل الخيمة" في مخيم البقعة. سيرة يمكن إسقاطها على كل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في كل المنافي والنكبات المتتالية وأروعها نكبة وفجيعة نكبة غزة التي نعيشها بل أكبر من نكبة! مؤكدًا على رفض الفلسطيني فكرة التوطين وعدم تناقض إشكالية هذه الفكرة مع احتياجاته الحياتية وحقه في توفير بيئة إنسانية. {ص17}

 تلك الفكرة التي حاول كثر المراهنة عليها بكيّ الوعي واستلابه، هم ذاتهم من حاولوا محو السيرة " حينما كان الشعب يكتب حكايته وينسجها غرزة غرزة ويبني أسطورته لبنة لبنة" كما يقول الكاتب.

نـاس المخيم

وكما يغوص المتمرس في قيعان البحار ليلتقط الدُّر غاص الكاتب في ناس المخيم لندرك وبموضوعية أن السيرة يعتريها ما يعتريها من التباس في من هو المناضل الحر ومن هو مدعي الوطنية، فالمخيم كفيل بتنحية الغث عن السمين.

حكايات المخيم حكايات جديرة بأن تُروى وأن تبقى، إنه مكان وزمان عزَّ مثيله تصدع ذاكرته، في كل سقف "زينكو إمَّا انشلع" وفي كل شبكٍ يحفظ خصوصية البيوت وفي كل شباك تتسلل منه تلك الخصوصية لتحط على "دواشك" البيوت التي تقابلها.. "قف هنا المخيم". {ص29}

فلسطين للكل والكل لفلسطين

وحدهم الأحرار من يدركون عمق القول؛ إنها قضية الأحرار، إذ نقش الكاتب تحت ظل خيمته أسماء رجالات الثورة من فلسطينيين وعروبيين وأمميين ولتتصدر عملية إيلات البطولية درة تاج ذاك الزمن الفدائي {ص28}، فيما تكيننت معركة الكرامة البطولية التي وحدت الدم ولمَّت شمل النهر غربه وشرقه وتربعت ركنًا مفصليَا في مسيرة الثورة بل أضحت ميلادًا وبعثًا، فما قبل الكرامة ليس كما بعدها إذ "أصبح للخيمة ما تقوله وأضحى لها مهمةً أخرى. "{ص33}

أبو جنيـد والحاجّة جازية

تُـرى هل يخلو يوم في التقويم من حدث فلسطينيّ!؟ إنه يوم الثالث عشر من أيلول عام 1993 وكان أن تمترسنا أما التلفاز في بيتنا في عمان لمتابعة حدث ظل ندبة في مسيرة الشعب الفلسطيني وثورته؛ ندبة ما زالت تنزف دمًا وتنزُّ قيحًا ولم تحقق ما كان يصبو إليه "صاحب أسطورة الصمود في بيروت والكرامة" وما كنا نأمل! فتحت أوسلو أوراقها وما أن هَمَّ الموقعون ليمهروا أسماءهم عليها حتى ضربت الحاجة جازية حسين صالح المحسيري والتي كانت تقيم جسدًا في مخيم الوحدات وروحًا في بيت محسير، ضربت كفًا بكف وصاحت: "ضاعت البلاد". استحضرت فعل هذه السيدة المسنة في استحضاري لصورة "أبـو جنيـد" يسير على غير هدى في شوارع مخيم البقعة صبيحة أوسلو وبصوته المكسور وحرقته يصيح: "باعوا فلسطين"!

غصت شوارع المخيم بالمتظاهرين وقد توافدوا من كل حدب وصوب، أما صاحبنا "مهنـد" فقد امتشق _ وعلى غضاضة عوده إذ كان لما يزل طالبًا في المرحلة الإعدادية_ امتشق سارية ابتدعها في عُجالة ليثبت بها علم فلسطين محمولًا على أكتاف رفاقه يجوبون شوارع المخيم "التي تغص بالصور ليتكلم شهيدنا ويُنطق الحجر". صور الشهداء الدالة الوحيدة على الطريق إلى فلسطين وليست "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، الطريق المعمّد بالدم والضاجّ بــ ... صوت فلسطين.. صوت الثورة الفلسطينية الصداح يعلن شارة "صوت العاصفة" الهادر بالعنفوان وتحدي ليل القهر والخنوع. لقد حاول الكثيرون توجيه طعناتهم النجلاء ليصيبوننا في مقتل في تلميح من الكاتب لواقعة الانشقاق عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح أو كما أصفها بخطيئة الانشقاق ولتبوء محاولات المرتهنين والموالين لغير فلسطين بالفشل كما يقول. {ص 114}

في تأصيله للرواية اتكأ الكاتب على الحضور الباذخ لجده وجدته وأفرد لهم فيها ركنًا أثيرًا، فغالبًا ما كان الجد يعمد إلى استعارة الشعارات ليسقطها على الواقع كأن يستعير من مكسيم غوركي حكمته في جدلية الفصول ليقول: " الورقة التي لا تسقط في فصل الخريف خائنة بعيون أخواتها وفيّة بعيون الشجرة ومتمردة بعيون الفصول!". أما أمه مريم بنت عيسى سيرة واسم يمكن إسقاطه على كل فلسطين، امرأة حمّالة عشق وأسى فيّاضة حزن و.. فطرة ثورية، لكن الاستشهاد يعضّ الروح ويمضّ القلب فكيف يكون التقبل وكيف يكون التصبر؟! يا لأمهات فلسطين كم تباهى الوجع بهن وكم كابرن أنفةً وعزة. مريم بنت عيسى رفيقة درب فدائي فدائية وأم فدائي، مناضلة لم ينتقص الكاتب - ابنها – من تجربتها في روايته، فهي الأم التي تمثلت بها فلسطين فتماهت معها مناضلة ثورية من أجل الجميع؛ عمال وفلاحين ومقهورين. يمهر الكاتب سيرتها بعبارته الغاصة ليقول: "ولعِظَم ما ابتلينا أصبحنا نحزن بأثر رجعيّ." {ص 199}

كيف يجترح الفلسطيني سبل الحياة ليأتي موته ليس كالموت؛ ربما هو بعث وليس موتًا، فراشته تحلق وتحوم حول النور تنشد الحقيقة. في حضرة الموت هذا تعود بي الذاكرة إلى زمن انتفاضة الأقصى المجيدة إذ يسألني والدي قلِقًا عبر الهاتف من منفاه في مخيم الزرقاء: "كيف عايشين يابا؟!" لأجيبه بتلقائية سوداوية: "عادي يا بابا بنتزوج وبنطّلّق بنحبل وبنولد وبنستشهد!" إنها جدلية الحياة والموت بتناقضاتها وتوافقاتها ابتدعها الفلسطيني فلئن مات الجسد "فالحياة بمفهومها المادي فانية أما حياة الحرث والهوية باقية". {ص310} شعارات تكتظ بمجازات لا يدرك كنهها إلا من أخذت به الأيام مآخذها ومن مثل الفلسطيني يخطها أيقونات يحفظها في خوابي المخيم:

"ساق الله ع أيام البلاد"

"أنا بخير سأعود"

"حين يبتسم المخيم تعبس المدن الكبيرة"

الحق أقول إنه وبقدر ما أطلقت تفاصيل الرواية دهشتي من مكامنها فقد أدهشتني أناقة وسلاسة لغتها التي انتقاها الكاتب المبدع مهند الأخرس بعنايةِ المنقب عن دُرّ وبدراية تنم عن تمكنه بأدواته ومعرفته بمداراته، إنها ذاكرة وطن، ذاكرة عاشق تكيننت بين دفتيّ رواية تجاوزت المائة بأربع عشرة صفحة اسمها "تحت ظل الخيمة".

 

 

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...