تواجه المنطقة العربية وتحديداً منطقتنا بالمشرق العربي اليوم تحديات أمنية وسياسية معقدة في محاولة للسيطرة عليها في إطار ما يدور بمناطق أخرى بالعالم تحديدا في شرق وسط أوروبا وفي بحر الصين. فبحسب ما قاله بلينكين في وقت سابق "إن من يفوز بهذه الصراعات سيفوز بالسيطرة على العالم." ولهذا نرى اليوم الطائرات القاذفة الأمريكية تحط في منطقتنا لهذا الهدف من تحقيق هيمنة الرؤية الأمريكية من خلال حليفها الإستراتيجي.
لقد أتى اندلاع عدوان الإبادة الجماعية والاقتلاع العرقي في غزة وامتداده إلى الضفة الغربية وإلى جبهات أخرى وتحديدا لبنان، في وقت كان فيه العالم على وشك رؤية توقيع اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل بوساطة الولايات المتحدة، لو لم تندلع الأحداث الأخيرة في السابع من أكتوبر والتي لم تشكل صدمة لإسرائيل وحدها بل والعالم الذي بات قبل ذلك شبه معتاد على استدامة الاحتلال واستمرار قهر شعبنا ومشاهدة أكبر سجن مفتوح بالعالم، بغض النظر حول ما يحيط تلك الأحداث من وجهات نظر مختلفة، نحن لسنا في مجال بحثها في هذا المقال.
واليوم ونحن نقترب من الانتخابات الأمريكية وتوسعة الحرب بالإقليم وتصاعد المجازر، تجري تحركات دبلوماسية سعودية حثيثة تبعاً لما صرح به وزير خارجيتها بالأمم المتحدة حول ضرورات إنقاذ حل الدولتين وتشكيل تحالف دولي بالخصوص. ورغم أهمية ذلك التوجه بشكل عام من حيث المبدأ، فقد تم عقد اجتماع لدول عديدة بهدف إطلاق تحالف دولي لدعم حل الدولتين خلال الأسبوع الماضي بالرياض، ورغم أهمية المعنى السياسي لتحشيد إجماع عملي دولي لهذا الخيار الأممي، تثار عدة تساؤلات من أهمها، ما هو الدافع الحقيقي وراء هذه المبادرة، وما الذي تأمل السعودية في تحقيقه؟ وما هو المغزى السياسي من طرح حل الدولتين في الوقت الذي لم تتغير فيه السياسة الإسرائيلية أو الأميركية تجاه فلسطين وحقوق شعبنا وتحديداً بشأن حل الدولتين نفسه أو حتى بشأن المبادرة العربية للسلام التي بادرت بها السعودية وتبنتها قمة بيروت لتشكل استراتيجية العمل العربي الرسمي من ذلك الوقت.
لقد أعلنت السعودية في السنوات الأخيرة دعمها لمبادرات السلام، وتحديداً تلك التي تتماشى مع رؤية الولايات المتحدة لصفقة القرن، التي تهدف إلى تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عبر حلول سلمية تشمل بعض التنازلات من الطرفين. ورغم رفض منظمة التحرير الفلسطينية لصفقة القرن واتفاقيات ابراهام، باعتبارها منحازة تماماً لصالح إسرائيل ولن تؤدي إلى الحقوق الفلسطينية من خلال تجاوزها أو القفز عنها. بقيت السعودية تسعى لتحقيق نوع من التهدئة الإقليمية وتوقيع اتفاق مع إسرائيل وتحقيق توازن في مواجهة النفوذ الإيراني والتركي المتزايدين في المنطقة. يبدو أن هذا المسار أصبح خياراً استراتيجياً للمملكة لتثبيت موقعها كلاعب رئيسي في الساحة السياسية الإقليمية وصاحبة تأثير دولي، إلا أنه ارتبط وفق تصريحات المسؤولين لإقامة الدولة الفلسطينية.
إلا أن الأحداث الأخيرة جاءت لتقلب الطاولة، إذ وضعت قواعد جديدة للصراع وفتحت مرحلة جديدة من المواجهة. فقد دفعت هذه الأحداث الدول العربية، والسعودية خاصةً، إلى إعادة النظر في سياساتها، مع الحفاظ على واجبها في السعي نحو حلول دبلوماسية على الأقل.
من الواضح أن الظروف السياسية الحالية أصبحت تجعل من فكرة حل الدولتين شبه رؤية رومانسية رغم أهميتها وارتباطها بوثيقة إعلان الدولة والاستقلال بالمجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالجزائر، لما مثلته أيضاً من إجماع سياسي وطني فلسطيني لبرنامج المنظمة والحركة الوطنية، الذي أيضاً نال موافقة حماس وفق إعلان ذلك بمناسبات عدة. هذا بالوقت الذي تواصل إسرائيل حرب الإبادة الهادفة إلى الاقتلاع والإحلال لفرض واقع يهودي ديمغرافي، وسياسة الاستيطان في الضفة الغربية، باقتراب أن يصبح عدد المستوطنين مليون مستوطن، فضلاً عن المصادرة الممنهجة للأراضي وضم أجزاء منها، وتكثيف الاعتداءات في القدس وتهويدها. حيث تفرض هذه الحقائق الميدانية تعقيدات إضافية على إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب الرفض المطلق السياسي من كل الأطراف الحزبية الصهيونية لإقامة ووجود دولة فلسطينية، بل هي تأتي بالسياق المعاكس من أجل تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى على كل أرض فلسطين التاريخية بل ولتشمل أراضي دول أخرى من الجوار كما يعلنون هم.
كما أن موقف الولايات المتحدة الحالي لا يبشر بوجود ضغط حقيقي على إسرائيل كما هو تاريخياً لاعتبارات التماهي الحضاري والعقائدي والشراكة الاستراتيجية، إذ تكتفي واشنطن بإصدار بيانات مكررة حول التهدئة من دون اتخاذ أي إجراءات جادة، بل وحتى دون توضيح معنى الدولة الفلسطينية من حيث الجوهر والشكل والحدود من خلال حديثها عن حل الدولتين دون إنهاء الاحتلال، والذي لا يعني سوى ذرٍ للرماد بالعيون في إطار سراب أمريكي معتاد لخدمة مصالحها.
يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة، التي تُعتبر الوسيط الأكبر لعملية السلام التي كانت مفترضة، تتخذ موقفاً متواطئاً بل وشريكاً بالكامل، حيث دعمت استمرار إسرائيل وما زالت في شن العمليات على غزة وشاركت معها حتى على الأرض وفي السماء والبحر، وحافظت على علاقات قوية معها دون اعتبار لمعاناة الفلسطينيين بل وحتى لحلفائها من العرب بالمنطقة، وقدمت لدولة الاحتلال لها الحماية السياسية والدبلوماسية المطلقة حتى في إعاقة أي قرار في مجلس الأمن حول مكانة الدولة الفلسطينية على إثر قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لعل ما يثير الدهشة هو غياب موقف عربي موحد وقوي تجاه ما يجري في فلسطين وما تبعه في لبنان وهو ما بضعف وجود أي آليات وخطط تنفيذية لفرض حل الدولتين.
في المقابل، اتخذت بعض الدول من أميركا اللاتينية وغيرها، مواقف شجاعة حيث قامت بقطع علاقاتها مع إسرائيل أو بسحب سفرائها كإدانة لما يجري في غزة ومنع تصدير الأسلحة، بينما اقتصرت التحركات العربية الرسمية على بيانات إدانة غير مؤثرة. ومع غياب مشروع قومي عربي منذ عقود خلت، يبدو أن الموقف العربي الآن يعاني من غياب الإرادة في اتخاذ خطوات دبلوماسية حازمة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، التي تواصل الاستفادة من الدعم الأميركي دون أي ضغوط تُذكر.
وهنا فقد يتساءل البعض عن الفائدة الحقيقية من إنشاء التحالف الدولي لدعم حل الدولتين في هذا التوقيت تحديداً. هل تسعى السعودية من خلال هذه المبادرة فقط لإظهار موقعها كقائد في الساحة السياسية العربية والإقليمية، منافسةً لإيران وتركيا وربما لمصر والأردن أيضاً وهم الأقرب على فلسطين؟ أم أنها خطوة تحمل فعلاً نية لتحقيق تغيير حقيقي، وما هي الخطة التنفيذية لذلك؟
من الواضح أن السعودية تدرك أن تحقيق حل الدولتين يتطلب إنهاء الاحتلال والاستيطان وضغطاً دولياً موحداً وإرادةً سياسيةً قويةً تلتزم بفرض عقوبات على إسرائيل في حال عدم التزامها. ومع ذلك، إذا لم يمتلك التحالف الدولي آليات واضحة لتنفيذ هذا الحل، مثل فرض عقوبات أو دعم جهود المساءلة الدولية أو تأييد تجميد أو فصل إسرائيل من المنظمة الدولية، فإن المبادرة قد تبقى رمزية في أحسن الأحوال.
لتحقيق تقدم في هذه المبادرة من الضروري أن يتجاوز التحالف الدولي إطار البيانات الدبلوماسية. على الدول العربية والدول الأخرى المشاركة، بما في ذلك السعودية، النظر في اتخاذ خطوات دبلوماسية واقتصادية حازمة، سواء عبر تخفيض العلاقات مع إسرائيل، أو عبر الضغط على الولايات المتحدة من خلال مصالحها الاقتصادية ووجود قواعدها العسكرية على أراضيها لوقف حرب الإبادة الجارية بحق شعبنا فوراً أولاً. يبقى من الضروري استلهام مواقف بعض الدول التي دعمت شعبنا الفلسطيني بطرق ملموسة، والاستفادة منها كنماذج يمكن اتباعها، أو اجراءات سابقة اتخذتها الدول العربية عام 1973 من جهة، وتمتين العلاقات مع دول مجموعة البريكس وخاصة الصين وروسيا وإيران ودول أمريكيا اللاتينية.
وهنا يبقى التساؤل الأهم وهو، إلى متى ستبقى الدول العربية حبيسة المصالح المؤقتة النابعة من العلاقات مع الولايات المتحدة التي بدورها لا تحرص حتى على أصدقاءها من غير إسرائيل، ودون أن تكون للأشقاء الكلمة الحاسمة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية عملياً بهدف استعادتها لشعبنا الأصلاني على هذه الأرض التي تبقى وطناً لنا تحت أي ظرف من الحلول السياسية؟ يبدو أن الحاجة ماسة لإعادة التفكير على الأقل في استراتيجيات المواجهة الدبلوماسية في وجه الاحتلال الإسرائيلي بل والولايات المتحدة، لأن كل تأخير في اتخاذ قرارات حاسمة يؤدي إلى مزيد من تآكل الحق الفلسطيني وتعريض شعبنا إلى مزيداً من المحارق.