سمعنا إرهاصات مصالحة فتحاوية، فرحنا بها وسرعان ما خفتت! مع إدراكنا أن الخلافات تتمّ صناعتها كما الحلول. وأن ثمة صناعة "للتصديق ولِلموافقة". ونعتقد أن العمود الفقري لشعبنا هي حركة فتح، الوطنية غير المرهونة لأحد، القادرة بشروط على الحرب والسلم، والوحيدة القادرة على أن تكون الفاعل السياسي الوطني، الذي لن يجعلنا نخرج خاسرين من هذا العدوان المجنون، وحتى لا تعطّل اسرائيل قضيتنا عشرين سنة قادمة.
فالإبادة الصهيونية لشعبنا هي وصفة نموذجية لتأبيد الاحتلال وشَرْعَنة كلّ السياسات الإجرامية التي قاموا ويقومون بها، والتي ستؤدي إلى تصفية قضيّتنا، فماذا أعدّت حركة فتح لمواجهة هذا السيناريو المرعب الذي يزحف فعلياً ويلتهم كل شيء؟ لهذا؛ لا بدّ من وحدتها واجبة الوجود. فالحركة ضرورة وطنية، وإصلاحها واستنهاضها على أسس وطنية ضرورة ومدخل لاستنهاض المشروع الوطني، مشروع الكلّ الفلسطيني. وإنّ المصالحة الفتحاوية، بصرف النظر عن كونها شرطا خارجيا، أو كونها استجابة حركية.. فإنها لا تعني شيئا إذا لم تذهب "فتح" عميقا إلى إعادة تعريف ذاتها، وانهاض مربعاتها، وتجاوز أزماتها البنيوية والتنظيمية، وتخطّي غربتها، وإذا لم تراجع، وتضع الصيغ القادرة على تخليق الإجابات المطلوبة، على كل الصعد.
المصالحة مضمون وليست شكلا، وعليها أن تخرج "الحركة" من التصوّر الإقليمي باعتبارها استطالة لتمرير مخططٍ ما، أي أن لا تكون وحدتها بهدف تمرير ورشة الشيطان.. وبمعنى أن تكون فتح القادمة صاحبة رؤيا تعيد إنهاض الشعب الفلسطيني، على قاعدة تغليب المقاومة على الحُكم، وجذب كل القوى المعافاة الصادقة، لإعادة بناء وحدة الشعب كلّه، تحت مظلّة "م.ت.ف". بنسغها وروحها ومكوناتها الجديدة الجامعة.
فهل لدى فتح إجابات للأسئلة الحارقة، ومناجزة فكرية سياسية ووطنية؟ أم نبضٌ متقطّع لا يحيي القلوب!
أتمنى ألا تكون الحوارات، غير المعلنة، تهدف إلى نيل أحدهم شرعية "جديدة" أمام بعض الجهات، أو تدور حول كيفية الاستجابة لشروط إنشاء حالة لإدارة غزة ومعبر رفح، دون وجود مباشر للسلطة أو لـ "م.ت.ف". ولكن، حتى هذا البحث لإدارة غزة، دون ضمان بوقف الحرب أو الانسحاب من غزة، يصطدم بعقبات أخرى بين المتحاورين، على الدور والمواقع، في الإطار الأوسع داخل فتح والسلطة والمنظمة.. هذه العقبات التي لا تبدو قابلة للجَسْر. ناهيك عن الاختلاف، إلى حدّ الصراع، داخل أقطاب اللجنة المركزية على شروط عودة ما يُسمّى بالمفصولين من الحركة، والتي أُوكِلَت إلى لجنة موقرة من قيادة الحركة، حددت الشروط، لقبول عودة المفصولين، ضمن وثيقة أعدتها تلك اللجنة، والتي لن تسرّع بإنجاز المصالحة الداخلية، بسبب البند الذي يشترط العودة الفردية، وأسبابٍ أخرى، الأمر الذي يعيد هذا الحوار إلى مربّعه الأول غير القابل للتقدم والنجاح. أي أن ضجيج الغرف المغلقة أو قنوات الاتصال، البعيدة عن عيون وآذان أبناء وكوادر الحركة.. لا يوحي على الإطلاق أنه سينتج طحينا!
إن ما يُعمّم؛ هو أقرب إلى دفعنا نحو الطرق الضيقة الملتوية، التي لن توصلنا إلى المصالحة، بينما يعرف الجميع الطريق المستقيم المباشر لتحقيق المصالحة.. إذ أن أفضل صيغة للمصالحة لا تحتاج إلى حوار أقطاب تتصارع على الأدوار والمواقع، بل هو إصدار قرار واضح ينصّ على إلغاء كافة قرارات الفصل المُلتبسة، والتحضير لعقد المؤتمر الحركي الثامن، من خلال لجنة تحضيرية من الكادر الخبير والحيادي، ومن خارج رموز الأقطاب، ومن غير المرشّحين لأي موقع حركيّ، مع ضمان مراجعات ضرورية جدّية وشاملة.
المصالحة لا تعني عودة التلميذ "المُشكِل" إلى الصفّ الدراسي ثانيةً، تحت إمرة المعلم نفسه، إنما هي تغيير المقاعد والفضاء والأستاذ والمنهاج المشوّه، لأن وجود تلميذ مُشكل يعني خللاً في العملية التربوية، وغيابا للإشراف والمنهاج.
ولا ينبغي للمصالحة داخل فتح لأن تكون أقرب إلى مصالحة وجهاء القبيلة، أو أفخاذها، داخل شِقّ سيّد القوم وعلى فِراشه.. فثمّة صعاليك ومهمّشون خارج "القبيلة"، وقد جأروا بالإصلاح! فهل سيكون لأبناء القبيلة صوتهم وحضورهم، أم سنرى ثالثة الأثافي ودلّة القهوة وهمهمات الفرح داخل خيمة الشيخ، ويبقى المتفرّجون عن بُعد، عراةً في الريح، يموتون من البرد والوحدة ورماح الأغراب؟
نحن مع المصالحة، وجمع شعث الحركة، وتجميع مكوّناتها من خارج الدائرة.. ولكن: بأيّ كيفية؟ وما هو التصوّر الشمولي لإعادة ثقلها الهائل؟ وبعيدا عن هذه الدولة أو تلك، لأن المصالحة الحقيقية يجب أن تتخلّق داخليا. هذا إذا صدقت نوايا المصالحة الفتحاوية الفتحاوية، لأن هناك ريْباً في هذا؛ فالبعض لا يريد، بل وسيعطّلها بعوائق "موضوعية" نعرفها؛ إما لتبقى فتح مُختطَفة، أو في دائرة الاستلاب والاحتواء، أو لتداخلات إقليمية مشبوهة. وإننا لا نميل إلى انتقاد الأشخاص، فالموضوع أكبر من ذلك، لكن ذلك لا يعفينا من مواجهة الواقع والحقيقة؛ أن مشروع التسوية وما تبعه من انقسام.. قد فشل ووصل إلى نهايته. ولا يحقّ لأحد، كائناً مَن كان، أن يوهِم نفسَه أنه يمتلك معجزة ستأتي بِحَلٍّ سحريّ من جعبة الحاوي، لأن هذا هو بيعٌ للوَهمْ، ولم يعد شراء الوقت ممكناً أو مفيداً، لأن المسافة بين أهدافنا(الوحدة الوطنية أولا، ثمّ الحرية والاستقلال والدولة والعودة والقدس)، قد ضاقت إلى حدّ مفجع، ولا يمكن مدّها زمنياً أو موضوعياً. وإذا ما استمرّت القيادة في نهجها الحالي.. عندها؛ لا مناص من أن نقول: إنهم سيتحمّلون المسؤولية عن المصير المظلم الذي دُفِع إليه شعبنا، وسنتحمل معهم مسؤولية الصمت، إنْ رضينا بذلك.
وإن فتح التي سارت بقدميها وقطعت المسافةَ ما بين "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف" إلى ما سُمّي "سلام الشجعان والتطبيع مع المحتلّ والاعتراف به وبما احتلّه؛ وهو أربعة أخماس مساحة فلسطين" دون ثمن ملموس.. قد جعل من هذا الإنجرار بلا يقين، وأفقدَنا الاحتفاظ بأدوات النضال والمقاومة، وعمل على تقديم مهمة على أخرى، وتبديل فكرة التحرير، بفكرة الدولة، فضيّع الفكرتين معاً، التحرير والدولة، أي لم نحقق التحرير، ولم نحصل على الدولة المستقلة ذات السيادة، ولم يعد اللاجئون، ولم تصبح القدس عاصمة حرّة لنا، ولم تعترف إسرائيل بحقوقنا! بل ما زالت شهوة الإبادة والاستيطان تغرز أنيابها فيما تبقّى من غزة والضفة والقدس، وتمنع حلّ الدولتين المُقترح الخائب. والسجون تمور بالأسرى.. وصرنا مُلحَقين إقتصادياً بدولة الاحتلال. وظهرت السلطة في أحسن صورها تقدّم خدمات بلدية وتجمع الرواتب (إن استطاعت)! ولا نستطيع السيطرة على أيّ معبر أو على بوصة واحدة، لنقيم عليها ضاحية أو مشروع تنمية، إلا بموافقة الاحتلال! وباتت إسرائيل هي المُتَحَكِّم الأقوى في الحالة الفلسطينية. ولم نعد قادرين على المقاومة وبكيفية موجعة واستراتيجية. واتّسعت هوامش الاحتكار والفساد والتكلّس والاستزلام والشعبوية. وانفرطت النُخب والقوى، وانكفأ بعضها، فيما ذهب بعضها إلى خيارات مضادّة ومناكفة. وفَقدنا التخطيط الشامل لمواجهة الأسئلة المهولة التي تتقدّم نحونا. ورأينا حال منظمة التحرير المترهّل والعاجز، إلّا لفظياً!
لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية واحدة من أهم الانجازات التي تحققت، لتضع الحصان أمام العربة، على الرغم من أن المنظمة أوجدها النظام الرسمي العربي لتكون مدخلاً لنفوذ العرب وهيمنتهم على الشعب الفلسطيني. صحيح أن فتح هي التي أعطت لمنظمة التحرير وجودها الوطني، وأمدّتها بروحها ونسغها، وحافظت مع ذلك على التنوّع الوطني والسياسي داخلها، رغم أنها لم تتمكن من أن تخلّصها تماماً من المداخلات العربية الرسمية، إلا أنها شكّلت بساط الريح الذي حمل المشروع الوطني طيلة أعوام النضال، ويخشى أن فتح، أو على الأصح قيادتها الرسمية، وتحت ضغط اللحظة الملتبسة في ظل اتفاق سياسي بات يقيد أدوات الفعل والنضال الوطني، أصبحت تُطوِّع المنظمة لخدمة التسوية السياسية التي أفرغها الاحتلال من كل ما كان يتوقع من مخرجاتها، بل ووضعتها في خدمة الحفاظ على مكوّنات الحُكم بعيداً عن الانتخابات والديمقراطية، وتكاد تحجبها خلف ظلّ السلطة الثقيل، وتستخدم مؤسساتها لتغطية سياسات الحكم، الأمر الذي يهدد، بشكل خطير، وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.
ولا يقولنّ لي أحدٌ، إننا ذهبنا "مُضطرّين ومُكْرَهين" إلى ذلك التنازل التدريجي وإلى تلك التراجيديا التي أوصلتنا إلى القاع بفعل ادّعاء "الواقعية"، والتعاطي مع المُمكن والمُتاح، وما فرضته موازين القوى.. لأن "الثورة"، أصلاً، وُجِدَت لتعاكس كل تلك المقولات، ووجِدَت لتؤسّس فضاءً جديداً مُغايراً وتبحث عن قَدَر تخلقه لنفسها.. لا أن تتعاطى مع "الموجود أو المفروض" أو تتماهى مع الرَّسْم البياني لقرارات القمم العربية المتهافتة واللاهثة نحو قاتلها.
وإن أهم ما ميّز حركتنا؛ ذاك الأفق الوسيع من التعددية، والاجتهاد، والتنوّع الحميد، وتوفّر النقد المسؤول، ما دام تحت مظلّة فتح العالية وفي فضاء روحها الرحبة. ما يحول دون تحجيمها أو اختصارها أو اقتصارها، على حجم هذا الرأي أو ذاك العضو، وحتى يبقى الإلتزامُ الحُرُّ بطانتَها المتماسكةَ المتينة، ويختفي الإلزام الممجوج الكريه، ومفردات القبيلة، ونداءات العصبية الهدّامة.