كلما تغير الرئيس تتغير معه شبكات المصالح الداخلية والخارجية، كذلك السياسات. الولايات المتحدة تؤكد على الدوام أن ليست لديها استمرارية أو ثوابت بل مصالح في مقاربتها لقضايا العالم على رغم أنها دولة مؤسسات. أما القيم والمبادئ فتظهر أحياناً وتغيب أكثر الأحيان. استهلك جورج دبليو بوش ولايتين للانتقام من هجمات 11 سبتمبر بـ«حرب على الإرهاب» في أفغانستان والعراق. وبدأ باراك أوباما عهده بالانسحاب من العراق، وكرس ولايتيه للتوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران معتقداً أنها سيلين تصلبها العقائدي تجاه أمريكا، لكنها خيبت أمله فاضطر لإنهاء رئاسته بتعويضٍ مجزٍ لإسرائيل على «الضرر» الذي أصابها جراء الاتفاق النووي.
ما لبث دونالد ترمب أن انسحب من ذلك الاتفاق وفرض عقوبات وضغوطاً قصوى على إيران، وحقق لإسرائيل- بنيامين نتنياهو بضعة أحلام (القدس عاصمة، سيادة على الجولان، «صفقة القرن» لتصفية قضية الشعب الفلسطيني). ثم انسحب جو بايدن من أفغانستان ودهمته أزمة بضخامة الغزو الروسي لأوكرانيا فأخذته إلى منطق الحرب، لكنه استعاد الوهم الأوبامي بإحياء الاتفاق النووي فاصطدم بـ«طوفان الأقصى» وتصرف كـ«مناضل صهيوني» واضعاً نفسه تحت رحمة نتنياهو الذي دأب على تحديه ولم يخف دعمه عودة ترمب إلى البيت الأبيض.
رهانات كثيرة شرقاً وغرباً على انتخابات 2024، مفهومان متناقضان لأمريكا (والعالم)، وفي الأسبوع الأخير من الحملات ساد الغموض ولم تعد استطلاعات الرأي تعطي أرجحية فوزٍ لكمالا هاريس بل أرقاماً متقاربة لمصلحتها وأحياناً متساوية مع منافسها. وللصدفة برزت أرقام النمو متراجعة بعدما كان الخبراء يقولون إن تحسن الاقتصاد هو «الإرث» الوحيد «الجيد» الذي يخلفه بايدن ويمكن نائبته الاستناد اليه في حملتها. في المقابل راح ترمب يكثف الإشارات التي يتقن صنعها للإيحاء بأنه بدأ يمارس «رئاسته» مبكراً. فهو دخل في مداولات مع أقطاب الحزب الجمهوري في الكونغرس لوضع خطط التعامل مع نتائج الاقتراع خصوصاً إذا كان تقاربها ضئيلاً لمصلحة منافسته.
كما أنه يكثف اتصالاته مع وجوه اليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا، لا سيما رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان الذي بدأ يروج أن ترمب سيتفق مع فلاديمير بوتين على هدنة في أوكرانيا، وتردد أن أوربان قد يدعو ترمب (بعد انتخابه) إلى القمة الأوروبية التي ستعقد في بودابست... لذلك تصاعد القلق في العواصم الأوروبية الأساسية من أن ترمب «العائد» سينقل الملف الاوكراني من كنف تحالف أطلسي، أمريكي- أوروبي، إلى صفقة بين ترمب وبوتين. لا يمانع المرشح الجمهوري احتفاظ روسيا بالأراضي الأوكرانية التي تحتلها، ولا يؤيد ضم أوكرانيا إلى حلف «الناتو»، ما يلبي مطالب بوتين لإنهاء الحرب.
في تصريحات أخيرة تحدث ترمب أمام أمريكيين من أصول عربية في ميشيغان عن لبنان بعبارة مقتضبة: «أعرف الكثيرين من لبنان، وعلينا إنهاء هذا الأمر برمته»، وهي قد تعني شيئاً أو لا تعني، إذ لم يدع بوضوح إلى إنهاء الحرب، بل بدا أنه يتعجل إسرائيل «إنجاز المهمة» بالنسبة إلى «حزب الله» و«حماس» وقدراتهما العسكرية، ملتقياً مع موقف إدارة بايدن والعديد من الحكومات الغربية. ونقل عن ترمب قوله لنتنياهو إنه «يريد انتهاء حرب غزة بحلول موعد توليه الرئاسة». وقبل ذلك أشار مستشارون لترمب إلى أنه على اتصال دائم مع نتنياهو وكان طلب منه شن الهجوم على إيران قبل الانتخابات وليس بعدها، كما طلبت منه إدارة بايدن.
فجأة عاد المرشد علي خامنئي إلى الواجهة ليعلن أن إيران سترد على ذلك الهجوم، بل إنها سترد قبل الانتخابات الأمريكية، بعدما أوحت باستجابة تحذيرات طالبتها بعدم الرد. ما الذي استجد في حسابات طهران؟ بمعزل عما إذا كانت ستهاجم مجدداً أو لا، الأرجح أنها متوجسة من احتمال عودة ترمب وهي في موقف إستراتيجي غير مريح، خصوصاً بعد الأضرار التي لحقت بكبريائها كما ببرنامجها الصاروخي جراء الهجوم الإسرائيلي، وبعد الخسائر التي تكبدتها ميليشياتها في غزة ولبنان وحتى في سوريا. لم تتوقع طهران أن يتبلور التوافق الدولي الحالي على تقليص نفوذها الإقليمي وأن يحظى حتى بموافقة ضمنية من روسيا والصين اللتين تربطها بهما علاقات متقدمة. لم تعد إيران تستبعد مثلاً احتمال ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل كي تضرب منشآتها النووية، وإذا هوجمت لم يعد واقعياً اعتمادها على الميليشيات لـ«إشعال المنطقة» دفاعاً عنها.