الأسير كميل أبو حنيش
"سقط الزَّند وسقط المتاع" مشروع نهضوي ثقافي أركانه مكتملة مساهمة جادة في نقد الثقافة الوطنية الفلسطينية الراهنة الصادر في 2024 عن مكتبة كل شيء في حيفا للأسير الحر مؤبد الأحكام كميل أبو حنيش الذي يقضى حكمًا بالسجن أصدرته بحقه محكمة الاحتلال وحكمت عليه بتسعة مؤبدات قضى منها ثنتين وعشرين سنة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال بسيارة مفخخة عام 2001.
من يكتب يقاوم ومن يقاوم ينتصر
لا يختلف اثنان في اعتبار أن الثقافة مكون أساس للهوية الوطنية، وتختلف الثقافة المشتبكة وجوبًا عن تلك الثقافة الملتبسة والخانعة، ففي معرض وصفه للثقافة الفلسطينية في العقود الأخيرة يلمح الكاتب إلى اتساقها وتشعباتها وتعدديتها وسيولتها، في حين تشهد بعضًا من حالات التشوّه والانحراف (ص 18)، ومرد ذلك – من وجهة نظري – لتراجع الخطاب الثقافي الثوري الرسمي وتشظيه نتيجة للحالة المربكة التي ترتبط بتفاقم أزمة المشروع الوطني.
لقد استعار الكاتب شطرًا لعنوان بحثه من ديوان أبي العلاء المعري مفهوم سقط الزَّند كناية عن الثقافة الثورية، ليتبعه بمدلول ثانٍ سقط المتاع بالرغم من تعارض وظيفة المفهومين وتناقضهما؛ فسقط الزّند هو الشرارة الأولى التي تقدح جراء احتكاك حجريّ صوّان فيما ينم سقط المتاع عن سقوط ما لا قيمة له كناية عن حالة التردي والسقوط الذي يوسم الثقافة المهزومة العدمية، تمكن من توظيف هذين المفهومين وبدراية العارف ليسقطهما على الواقع الفلسطيني عمومًا والثقافة الفلسطينية على وجه الخصوص وما اعتراها من تردٍّ وتشويه.
بموضوعية فذَّة أجاد الكاتب في إنصاف وتصنيف هذين النوعين المستهدفَين في بحثه حول الثقافة الوطنية الفلسطينية إذ يقول في الصفحة (21): "يتعين علينا الاعتراف أن هذا النموذج في تصنيف الثقافة الفلسطينية الراهنة بهذين الشكلين تعتريه إشكالية الجمود والتصلب، فكثير ممن يُحسَبون على ثقافة سقط الزَّند تتسم انتاجاتهم بالضعف وغياب الابداع والقصور والانغلاق والتمترس خلف هويات أيديولوجية لا تخدم بالضرورة القضية التحررية، وإصابة البعض – بما وصفه – البرانويا الثقافية. ومن جانب آخر يصف أعمال وانتاجات بعض ممن يُحسَبون على ثقافة سقط المتاع بالتنوع والجدية والقيَميَة وما إلى ذلك بالرغم من ذاتيتهم وانحرافهم عن المسار التحرري.
تمكن كميل أبو حنيش من تبني موقفٍ ضميريٍّ إزاء شكليّ الثقافة مؤكدًا على أن معياره في الحكم هو التأكيد على التناقض الرئيسي مع الاحتلال والحق في المقاومة حتى التحرير. وحصَر إشكاليات الثقافة التحررية في عناوين رئيسية خمسة إذ عزا ما يشوب الحالة الثقافية الفلسطينية من ترهل إلى هيمنة الخطاب السياسي على الثقافي والاسترزاق وترهل المؤسسات الثقافية الفلسطينية، وهذا ما بتنا نلمسه من محاولات تفريغ المؤسسة من داخلها لتبدو جسمًا من غير روح.
لقد أكد الكاتب في بحثه على ضرورة التصدي لتلك الثقافة الانهزامية المسطحة والعدمية والتي من وجهة نظره – أخذت لها حيزًا في الساحة الثقافية الفلسطينية- ص (23) والتي إن تواصلت فمن شأنها إضعاف المناعة الوطنية. ويرى أن المشروع الثقافي الفلسطيني يعاني من أعراض ثقافية سائدة وينبه للخطورة من استفحالها وتأثيرها على الفعل الثقافي التحرري وأجملَها بأربعة؛ النرجسية، البارانويا، الشيزوفرينيا والميوعة. ولعل أكثر ما يلفت انتباه المتلقي في هذا المجال جانب على درجة من الأهمية ألا وهو تطفل البعض على أدب السجون وإنتاجات الأسرى واستغلالها لمصالح ذاتية!
لم يتوقف الكاتب في استعراضه للأعراض والإشكاليات التي تشوب الفعل الثقافي الفلسطيني، بل عمد – وهذا دأب المفكر المصلح والمنتمي – إلى اجتراح مقترحات من شأنها النهوض بالفعل الثقافي الفلسطيني ومحاولة تطويره لمجابهة الثقافة الزائفة والسردية الصهيونية والتي يعمل الاحتلال جاهدًا دأب كل احتلال، على إلغاء ثقافة وحضارة الشعوب الرازحة تحت نيره وإفساد ثقافة الشعب الوطنية، إذ بعد الاحتلال والسيطرة على الأرض يعمد المستعمِر إلى تقويض أساسات الثقافة الوطنية من لغة وقيم مجتمعية وتقاليد وعادات وفنون وآداب ... والعمل على تذويبها وصهرها في بوتقة شخصه فالاحتلال لا هوية له مستعرضًا – أعني الكاتب - نماذج مذهلة للتصدي لهذه المحاولات (ص 28) مع إقراره بأن الشعوب المستعمَرة اقتبست بعضًا من ثقافة المستعمِر بقصد تغذية ثقافتها الوطنية الأصلانية وتطويرها والتسلح بها في الصراع مع العدو للوصول إلى التحرير.
لقد قارب الكاتب وقارن بين المشروع الوطني الثقافي قبل النكبة وبين مرحلة انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة واستعرض العديد من الحالات الإبداعية في كلا المرحلتين، ولعل أبرز ما بلور المشروع الثقافي التحرري الفلسطيني إبان عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي هيمنة فصائل الثورة على منظمة التحرير الفلسطينية ولا يعني هذا أن التراكمات الثقافية الوطنية لم تكن الأساس منذ البدء وحتى اللحظة فهي التي شكلت الثقافة الوطنية وأسهمت فعليًا في بلورة الهوية الوطنية.
لخص أبو حنيش في بحثه هذا إشكالات الثقافة الفلسطينية في العقود الأخيرة وإن كان أهمها النزوع نحو التسوية ما أدى إلى تعددية الخطاب الثقافي وتشظيه بين ما هو ثوري وسلطوي، بين ما هو تسووي ومُعارض واحتكم لأيديولوجيات الإسلاموية والقومية والليبيرالية، ولم تعد هناك وحدة خطاب ما أدى إلى ظهور ظواهر سلبية شابت الحالة الوطنية الفلسطينية. لقد برز التناقض في الخطاب الوطني نظرًا لتداخل مرحلة التحرر الوطني وتشكيل السلطة وما اتصفت به كل مرحلة من أدوات ولغة خطاب وقيم وانعكاس كل ذلك على مجمل الحياة الفلسطينية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، ذلك أن مشروع التحرر لم يُنجِز بعد وما تزال السلطة في رَبِقَة الاحتلال مما أدى إلى انقسام الساحة الفلسطينية والقلق من تفكك المشروع الثقافي الفلسطيني وهيمنة السياسي على الثقافي والافتقار للتناغم بين الرسمي السلطوي والثقافي التحرري. هذا المشهد عمل على بروز ظاهرة الاسترزاق واحتلت حيزًا كبيرًا في الساحة الثقافية الفلسطينية.
بمهارة تسجل للكاتب، إفراده للمعركة الثقافية مع الاحتلال جزءًا مهمًا في بحثه المتميز هذا وحذر من الانزلاق في مواجهة المشروع الصهيوني الزائف إلى مربع الصراع الديني، فالصراع مع الصهاينة ليس صراعًا دينيًا ولا قوميًا، وهذا ما يسعى الاحتلال إلى تكريسه، بل يجب التركيز على البعد الاستعماري الذي هو وكما يقول ونتفق معه، أن البعد الاستعماري هو الأساس في المشروع الصهيوني ومحاولاته البائسة في سرقة التراث لتكريس ثقافة لا جذور لها. "فلولا المخزون الحضاري الثقافي التاريخي الكامن في وجدان الشعب الفلسطيني لما أمكنه الصمود في مواجهة الغزو الصهيوني." (ص 50) وهذا هو سر بقائنا بالرغم من كل محاولات الطمس والإبادة والتهجير على مدى أكثر من قرن.
حصر الكاتب أزمة المشروع الوطني التحرري بأسباب رئيسية ثلاثة أولها فشل التسوية السياسية واستعصائها وثانيها الانقسام وإسقاطاته على مجمل الحياة الفلسطينية وثالثًا تكلس الحركة الوطنية وعجزها ما أثر سلبًا على الثقافة الوطنية وأدى بالتالي إلى ضحالة الإنتاج الثقافي وتعدد مشاربه وأجنداته بالتساوق مع بروز ظاهرة الشللية والفئوية والذاتية ... والإخفاق في استثمار التاريخ الفلسطيني وجذوره الكنعانية في موازاة عمل الاحتلال الدؤوب باستدعائه لتاريخه التوراتي الأسطوري الزائف. يرى أبو حنيش أن استدعاء التاريخ الثقافي الكنعاني يمثل الأساس الموضوعي في مواجهة الرواية الصهيونية الضليلة، فالتراث الفلسطيني يمثل البنية الثقافية ويشكل تحديًا وجوديًا في صراعنا الوجودي مع الاحتلال.
من جانب آخر لا ينكر الكاتب أن التجربة التحررية مؤخرًا تمكنت من إحياء الهوية الفلسطينية ومضامينها الثقافية وتطوير الخطاب الثقافي الفلسطيني منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة ليصل إلى العالمية بالرغم من قصوره في تطوير ذاته بفعل الحصار الذي تفرضه الدوائر الصهيونية وافتقاره للكثير من الإمكانات المادية والسياسية التي يتمتع بها المشروع المعادي، وعدم إيلاء الخطاب الثقافي الفلسطيني الأهمية المرجوة من قِبَل القيادة.
أما عوامل بناء خطاب ثقافي تحرري فقد لخصها الكاتب بمُثُل كالواقعية والموضوعية والإنسانية والأخلاقية في تفاعله مع القضايا العالمية وأن يتصف بالتقدمية والانفتاح والصدق والتماسك ويكون ذا بلاغة إبداعية ليتمكن من التأثير على المتلقي وأن يتمتع بالاستقلالية وغير خاضع للصراعات السياسية والتبعية.
"سقط الزَّند وسقط المتاع" مشروع بحثي جدير بأن يُحظى بعناية، تَمكن الكاتب الحر كميل أبو حنيش في الإضاءة وبجرأة على الحالة الثقافية الراهنة وما فيها من مناقب ومثالب متمكنًا من كافة أدواته ليوظفها بمهارة عالية وفكرًا وقّادُا وليعرضها وبكل موضوعية، يقدم المقترحات البناءة في سبيل النهوض بالثقافة الوطنية الفلسطينية، أوجزها بنقاط تسع:
أولها: عقد مؤتمر ثقافي وطني لتحديد الأهداف السياسية ويشكل دستورًا ثقافيًا يلتزم الجميع بمحدداته الثقافية الفلسطينية وأهدافها التحررية.
ثانيًا: ميثاق ثقافي وطني فلسطيني يضبط إيقاع العملية الثقافية ويعمل على تعريف الهوية الثقافية الفلسطينية وتصليبها وحمايتها وتجريم التطبيع الثقافي.
ثالثًا: تشجيع فكرة إنشاء مؤسسة ثقافية في كافة أماكن التواجد الفلسطيني لتثوير الحياة الثقافية.
رابعًا: تعزيز فكرة الفعاليات الثقافية في المجتمع الفلسطيني وخاصة في المناطق المهددة بالاستيطان والتهويد.
خامسًا: إنشاء أكاديمية وطنية للفنون والتراث تمثل جسرًا للتعاون الفني والثقافي مع العالم.
سادسًا: إنشاء معهد للدراسات التاريخية لدراسة التاريخ الكنعاني والدفاع عن التراث الكنعاني الذي تعرض للسطو من قِبَل دولة الاحتلال.
سابعًا: شبكة تضم المؤسسات الثقافية الفلسطينية في الشتات لتشكيل جسم فلسطيني يتفاعل مع المؤسسات الثقافية العربية والعالمية لنشر الرواية الفلسطينية.
ثامنًا: تشكيل جبهة ثقافية عربية مساندة لفلسطين ومعارضة للتطبيع تحت عنوان المؤتمر الثقافي العربي لإسناد فلسطين.
تاسعًا: وعطفًا على البند الثامن يوصي أبو حنيش بضرورة تشكيل منتدى ثقافي عالمي لمساندة فلسطين وملاحقة الأنشطة الثقافية الإسرائيلية ومحاصرتها وفضحها.
ختامًا أقول وفي ظل الهجمة الصهيونية واستلاب التاريخ والجغرافيا وإسكات الزمن والحضور الفلسطيني، ولأن الثقافة الوطنية هي الحصن والحاضنة للوجدان الحي للشعوب فنحن أحوج ما نكون لمشروع ثقافي إصلاحي يحمله المثقفون فهم المقدمة والمتن والخاتمة في الفعل الثقافي الثوري.