عن إسرائيل وعن بؤس أحوالنا

 

 

 

يحاول برهان غليون، الأكاديمي والسياسي السوري المعروف، النظر إلى ما أسماه “المسألة الشرقية ” أو “الأسس التي قام عليها المشرق الحديث، بعد انهيار السلطنة العثمانية”، بربطها بـ”المسألة الشرقية الجديدة أو المتجددة” التي طرحتها “الأحداث الراهنة والحروب المتعدّدة الأبعاد التي أطلقها “طوفان الأقصى”، وفي ذلك فهو يرى، محقاً، أن “من هذه الأسس تحويل فلسطين إلى دولة لليهود خاصة بهم وحدهم… ثم في ما وراء ذلك، تبني الدول الغربية الرئيسية لهذه الدولة وإلحاقها باستراتيجياتها الشرق أوسطية في مواجهة تنامي تطلعات شعوب المنطقة إلى مزيد من الاستقلال والسيادة على حدودها ومواردها ومصيرها”.

طبعا ثمة كلام كثير في هذا المقال، المهم يأتي ضمن البديهيات في الخطابات السياسية العربية الدارجة، لذا فإنني سأحاول أن أقدّم وجهة نظر مختصرة ومحددة للنقاط التي أرى أن غليون؛ مع كل التقدير، لم يعطها حقها، أو لم يتعاط معها بشكل مناسب (من وجهة نظري).

بداية، يرى غليون بولادة المسألة الفلسطينية، وضمنها إقامة دولة يهودية، كإحدى نتائج الأسس التي قام عليها المشرق العربي الحديث وأعراضها، إلا أنه يقدمها على غيرها، ويعطيها مكانة مركزية، علماً أنه صاحب كتاب: “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة” (2003). 

ومعلوم أن إقامة إسرائيل، بوسائل القوة وبدعم الدول الغربية الكبرى، أتت بالتزامن مع ولادة “الدولة الوطنية” في المنطقة العربية، التي كانت تتمتع بسمات السلطة أكثر من تمتّعها بسمات الدولة، بما هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، مع ملاحظة أن هذه الدولة لم تقم بفعل قوى مجتمعية، وحوامل سياسية واقتصادية، كما الحالة الأوروبية مثلاً، إنما قامت على حاملي العشيرة (في الأنظمة الملكية) والجيش (في الأنظمة الجمهورية) وحتى حدودها في المشرق تم صوغها، أو تخطيطها، وفقاً لإرادات الدول الكبرى المهيمنة آنذاك.

القصد أن إسرائيل قامت، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية، بفضل توافر شرطين، دولي وعربي، مكنا العامل الذاتي (جهد الحركة الصهيونية) من إقامة دولتها، وضمان أمنها واستقرارها وتطورها، إلى النحو الذي باتت عليه اليوم، في سعيها الى استعادة دورها كفاعل رئيس في هندسة المشرق العربي، عبر حرب الإبادة التي تشنها ضد الفلسطينيين (بخاصة في غزة) وضد لبنان، وفي سعيها الى تحجيم القطب الإقليمي الآخر المتمثل بإيران.

انسجاماً منه مع إعطاء المسألة الفلسطينية وإسرائيل، مكانة مركزية في تفسير أحوال المشرق العربي والمنطقة العربية، يرى غليون في إسرائيل الوسيلة الأكثر فعالية “لكسر إرادة شعوبها وإخضاعها” للنفوذ الأميركي، وكـ”خنجر في قلب المنطقة العربية الإسلامية”. 

هنا أيضاً يفوّت صاحب كتاب: “بيان من أجل الديمقراطية” (2006) رؤية أن الأنظمة العربية التسلطية هي التي كسرت إرادة شعوبها، وهي التي أخضعت وأضعفت وهمّشت مجتمعاتها، بافتقادها مكانة المواطن السياسية والقانونية، ومناهضتها لحقوق الإنسان، وضمنها حرية الرأي والتعبير والمشاركة السياسية والديمقراطية. 

ثمة حديث آخر لغليون عن “المنطقة العربية والإسلامية”، وهو كلام إنشائي، ومكرر في المقال، ويصلح للخطابات السياسية “الجماهيرية”، فتلك المنطقة غير متعيّنة أو محددة، بمعايير سياسية أو قانونية او اقتصادية، ولا يكفي عامل اللغة للحديث عن منطقة أو أمة عربية، أو عامل الدين للحديث عن منطقة، أو أمة إسلامية؛ علماً أن ثمة في المنطقتين أنظمة ترى نفسها بشكل طوعي ومصلحي في علاقة مع الغرب، أكثر من أي طرف آخر، ومن دون أي ضغط في عالم العلاقات الدولية، وهذا ينسحب على عدد من الدول العربية والإسلامية.

اللافت أن غليون يُصر على رؤيته تلك بقوله: “أصبحت إسرائيل… أمضى سلاح في يد الغرب لقمع (وردع) مجتمعات الشرق الأوسط وشعوبه المتطلّعة إلى كسر قيود التبعية والسيطرة الاستعمارية والطيران بأجنحتها…”، في إحالة مرض أو عطب البلدان العربية واستعصاء التطور فيها، إلى الطرف الخارجي، ثم إلى إسرائيل! 

والسؤال، ما شأن إسرائيل في الجزائر أو المغرب أو ليبيا أو اليمن أو السودان أو مصر؟ وحتى في المشرق، هل حصل مثل ذلك في لبنان أو العراق أو سوريا، حيث كان غليون أول رئيس لـ “المجلس الوطني السوري”، أي المعارضة؟ هذا الكلام لا يقلّل من خطورة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعدوانية في المشرق العربي، أمس واليوم وغداً، ولكنه يعطي الأولوية لعوامل العطب الداخلية في العالم العربي؛ وهي التي يفترض الانتباه إليها، من دون إغفال خطر وجود إسرائيل، إذ إن العطب الداخلي لا يُغطي على العطب الخارجي ولا يبرره، والعكس صحيح أيضاً.

في إطار الكلام العمومي ذاته، يقول غليون: “خسرت الدول العربية معارك عسكرية عدة، بدءاً بحرب 1949 ثم 1956 ثم 1967 و1973″، علماً أن ذلك لا ينطبق على كل الدول، ثم إن تلك المعارك كانت فرضتها إسرائيل، باستثناء واحدة (حرب 1973). 

أيضا، فإن أسطورة حرب 1948عن دخول جيوش عربية عدة إلى فلسطين، كانت روّجتها إسرائيل للتأكيد للعالم أنها ضحية من جهة، ولتأكيد قوتها أمام مجتمعها وأمام يهود العالم، من جهة أخرى. وقد يكفي للتدليل على ذلك أن عدد أفراد الجيوش تلك لم يتجاوز الـ 60 ألفاً في حين أن المستوطنين اليهود في فلسطين إبانها، وعددهم 600 ألف فقط، كان لديهم بين 80 ـ 120 ألفاً في الميليشيات العسكرية اليهودية (الهاجاناه شتيرن أرغون) مع تسليح وقيادة أفضل، وهي الميليشيات التي تأسس منها الجيش الإسرائيلي بعد إقامة إسرائيل. 

القصد أن الأنظمة العربية لم تضع مسألة الحرب ضد إسرائيل كمسألة مركزية في سياساتها، لأسباب عدة، تتعلق بعجزها عن ذلك، بخاصة بعد كارثة هزيمة حزيران (1967) التي تغلبت فيها إسرائيل على جيوش عربية عدة خلال أيام عدة، وضمنها جيشا أهم دولتين عربيتين “قوميتين” و”تقدميتين”، بالمعايير السياسية لذلك الزمان.

هذا يفند، أيضاً، أن فلسطين كانت قضية مركزية في الأجندة العربية، إلا بما كانت عليه كقضية، للتغطية على الهزيمة، وتالياً لتعزيز الأنظمة الاستبدادية وتبريرها، ومصادرة الحقوق والحريات والموارد في بلدانها بدعوى الصراع ضد إسرائيل. 

وفي الواقع، فإن تلك الأنظمة، في ما بعد، باتت تعبّر عن طبيعتها السلطوية بجلاء، ولم تعد بحاجة إلى قضية فلسطين ولا الى المقاومة، لتبرير ذاتها أو تعزيز سلطاتها، والتذرع بمصالحها “الوطنية” الخاصة، وإن بررت ذلك بجنوح القيادة الفلسطينية نحو هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع.

في ما يتعلق بإيران، ثمة كثير مما يمكن الاتفاق معه في مقالة غليون، بيد أن قوله: “كما استخدم الغرب النظم العربية والعراق في المرحلة الأولى لكسر شوكة السياسة الثورية الإيرانية، سيستخدم روح الانتقام القومية الإيرانية لإجهاض جهود دول المنطقة العربية جميعها في التقدم والتنمية، وفي تعطيل أي فرصٍ محتملة للتعاون في ما بينها”. 

ففي تلك الفقرة ثمة ثلاث ملاحظات، الأولى، أن التوصيف بـ “السياسة الثورية الإيرانية”، يتنافى مع طبيعة النظام الإيراني، الذي تأسس بعد إسقاط نظام الشاه. والثانية، حديثه عن “جهود دول المنطقة العربية جميعها في التقدم والتنمية، وفي تعطيل أي فرص محتملة للتعاون بينها”، يتنافى مع الواقع وطبيعة الأنظمة، التي يتحدث عنها كأقطار “تابعة وضعيفة ومتهالكة”… و”متنازعة”. 

أما الثالثة، فتفيد بأن الولايات المتحدة وإسرائيل استثمرتا في سياسات إيران تلك، ومكنتاها في المنطقة، ما يفسر تسليم العراق على طبق من فضة لها، بعد إسقاط نظام صدام (2003) عبر ميليشياتها الطائفية المسلحة، والسكوت عن صعود نفوذها وتشكيلها ميليشيات، نجم عنها تخريب وتصديع بنى الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي واليمن، مع استخدامها كبعبع وكفزاعة ضد أنظمة المنطقة.

ثمة أفكار أساسية كثيرة أتفق فيها مع منطلقات غليون، لكني أود أن أحدد الفكرة المتعلقة بالعلاقة العضوية التي تربط الغرب بإسرائيل، وهي الفكرة التي طالما رددتها في اعتباري أن إسرائيل ليست مجرد دولة في الشرق الأوسط، إنما هي وضع دولي فيه، منذ إقامتها، وهذا ما يفسر كل شيء، بما في ذلك ضمانة الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، لأمن إسرائيل وتفوقها النوعي، الأمني والاقتصادي والتكنولوجي في المنطقة، الأمر الذي يغيب أو يتشوش في الإدراكات السياسية لصانعي القرار في العالم العربي في تخبطاتهم ومراهناتهم. 

مع ذلك، فلعل أهم ما يفترض الانتباه إليه، أيضاً، في الإدراكات العربية، أن إسرائيل لم تتفوق، فقط، بسبب قوتها العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وبحكم ضمانة الغرب لأمنها وتفوقها، إنما أيضاً بسبب تميزها بقدرتها على بناء دولة مؤسسات وقوانين ومواطنين (نسبة لمواطنيها اليهود) وهو الأمر الذي تفتقده البلدان العربية، ويعتبر أهم نقاط ضعفها.

في ختام مقاله يصل غليون إلى خلاصة مفادها “أنه حتى لو أمكن الهرب من القضية الفلسطينية، التي شكّلت عبئاً على دول عربية ضعيفة ومتنازعة، فليس من الممكن الهرب من مواجهة “الزعرنة” الإسرائيلية، سواء استمر الفلسطينيون في كفاحهم أو سلموا أو أُبيدوا، فإسرائيل كما هي اليوم ستبقى صاعق تفجير للمنطقة تفرض عليها أجندتها وسطوتها وتحرم شعوبها من حرّياتها…” أيضاً، هنا كلام عمومي ومكرر عن العرب والدول العربية، فما يصح في المشرق العربي لا يصح في الخليج والمغرب العربيين، ثم إن الأمر لا يتوقف على ما تريده أو ما تفعله إسرائيل فقط، إنما يتوقف أساساً، على ما تفعله الأنظمة المتحكمة بمجتمعات تلك المنطقة؛ وطبعا فقد فات غليون قول ما ينبغي أو ما يمكن فعله، إزاء كل ذلك.

المهم أننا إزاء مقالة متميزة تحتاج إلى نقاش وتوسيع وإغناء، كما تحتاج إلى قول ما يمكن فعله، بعد تلك التجارب والأحداث والأثمان كلها. 

 

 

 

 

Loading...