كُتّاب مسار

بين الروح والعنق.. غزة وإسرائيل...!

ما قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي تسبب لإسرائيل بجرحاً هو الأكثر عمقاً منذ تأسيس الدولة فالضربة كانت هذه المرة في القلب وليس في الأطراف كحروب سابقة، لذا كانت تعبيراتها وحجم وحشيتها يعكس ذلك الإختلاف لتعلن تل أبيب في اليوم الأول بأن هذه الحرب "حرب وجودية" وفي سياق آخر تعتبرها " حرب الإستقلال الثانية ".

وخلال تلك التصريحات كانت تتحرك قوتها الكاسحة بلا حساب فقد فقدت توازنها إثر الضربة ليتكشف أن الدولة ذات السبعة عقود ونصف لم تستقر بعد وهو ما كان قد تجاوز المدة الإفتراضية لهرتسل بنصف قرن توقع فيها أن تكون قد أصبحت دولة طبيعية لكنها تعلن الآن أنها تستكمل حروب استقلالها هذا بعد أن لامست للحظة حلم مؤسسها النظري كان يعبر عن ذلك الخطاب الأخير لرئيس وزرائها المترنح في الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي مزهوا بإحتقاره للفلسطينيين بإعتبارهم أقل شأناً من أن يشكلوا عائقا أمام التطبيع ليكتشف في اليوم الثاني أنهم وصلوا غرفة نومه وزعزعوا سريره.

لا زال القتال أو المقتلة تتجسد في أبشع صورها تقدم وجها مظلما للبشرية حيث ينازل فيها جيش اسرائيل سيف الوقت على أمل أن يزف سريعا بشرى انجاز أي من الاهداف التي رفعتها الحكومة في ذروة فقدان التوازن لكن يبدو أن رمال غزة التي دفنت إرثا من هزائم التاريخ وانتصاراته لم تقدم للإسرائيلي هزيمتها على طبق الدم المسكوب في الشوارع والحارات.

لا زالت الصواريخ تنطلق ومن المنطقة الشمالية التي قالت منذ أسابيع بأن خصمها اللدود فقد سيطرته هناك ولا زالت قواته تخوض أصعب معاركها في المنطقة الشمالية ضد خصما عنيدا لم ينهزم بعد أكثر من شهرين من قصف طال كل شبر مهرته خمسون ألف قذيفة على منطقة صغيرة قلبت فيها كل حجر وكل بوابة نفق وكل مخزن سلاح وقتلت معظم المقاتلين لكنها تكتشف أنها تدخل حرب عصابات وإن كانت منذ سنوات قد أحدثت تغيرا في العقيدة القتالية بأن اسرائيل لن تواجه جيوشا نظامية بل ما أسمتها بـ "المنظمات غير الدولانية".

إسرائيل تبحث في غزة عن روحها هنا كان سر الوحشية التي تكشفها حملة الإبادة لكل شيء هناك لكن غزة أيضا تبحث عن سرها في العنق الإسرائيلي منذ عقود ترفض أن تفلته رغم محاولة تل أبيب اخراجها من البطن الإسرائيلي حسب توصيف الصحفي شالوم يروشالمي لكن الخوف المتبادل والتربص المتبادل منذ عقود يعيد الصدام إلى نقطة الصفر كلما وصلتا في العد إلى التاسعة والتسعين.. تبدأ من جديد.

في ذروة الصدام مع غزة كان التذاكي الإسرائيلي يمارس لعبته في القضاء على المشروع السياسي بالحل الذي تراءى منذ سنوات ووصل خصومه للسلطة في اسرائيل كان الإنسحاب من غزة وتهيئة الأرض لصراعا فلسطينيا ينتهي بطرد السلطة من غزة ويحكم بعدها الإسلاميون ليتم تفتيت الحالة الفلسطينية لتستكمل تدمير ذاتها ثم استمرت اسرائيل في تعزيز مشروعها لتتكفل بإستمرار حكم حماس  وتوفر لها في السنوات الخمس الاخيرة مليار ونصف المليار دولار لكن الحركة الإسلامية كانت تتحضر لما هو أكبر لتقلب الطاولة على رأس المشروع المغامر محدثة زلزالا للسياسات العابثة التي اتبعتها اسرائيل تجاه الفلسطينيين.   لكن الحرب الآن التي تبدو عالقة بين خصمين عنيدين ودينيين حركة حماس ذات المرجعية الدينية واسرائيل القومية التي تستعيد نصوص الكتب القديمة في تفسير وجودها، هذه الحرب أصعب الحروب حيث لا راية بيضاء بين هذين خصمين دينيين لكن الكلفة أعلى من قدرة البشرية الصامتة على احتمالها فكيف ستنتهي الحرب؟ بات هذا سؤال المليون دولار الذي تتداوله العواصم أعلاهم صوتاً أنطونيو غوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة الذي يتعرض لهجوم إسرائيلي عنيف.

تستدرج اسرائيل نفسها للغرق في رمل غزة بلا خطة للخروج فمنذ السؤال الأول كانت تقدم إجابة أن لديها خطة دخول ولكن الخروج لم تفكر به، لا تفكر اسرائيل بالخروج قريبا وما تشي به التصريحات وسط حالة فقدان التوازن أنها تبحث عن ترتيبات أمنية دائمة تضمن تحييد غزة لسنوات طويلة في شيء يشبه الضفة الغربية من اجتياحات ومطاردات ساخنة ولكن غزة لها خصوصية تاريخية كان رابين يتمنى موتها في البحر يبدو أن الحرب مع غزة ستكون حالة مزمنة كعادة الإلتحام بينها وبين اسرائيل بين الروح والعنق.. لكن التاريخ قديمه وجديده قال حكمته بأن كل الغرباء انهزموا في غزة ولم ينتصر أحد.

Loading...