ليس سهلا ولا ترفا، أن تكسر مخرجة أفلام وثائقية فلسطينية حاجز الصمت، وتنبش التاريخ فوق رأس مجتمع كان وما زال متمسكا بموروث أعاق تقدمه ليلحق بمجتمعات تطورت ثقافيا واجتماعيا وعلميا وصناعيا واقتصاديا، لأجل سعادة الإنسان ورفاه الإنسانية.
المخرجة الفلسطينية "بثينة كنعان خوري" من مدينة الطيبة الفلسطينية والتي تقع شرق رام الله، أضاءت وبل ونبشت في مشاهد مؤلمة عن جرائم ما يسمى ب "شرف العائلة" بفيلم توثيقي عنوانه "مغارة ماريا" بدأته بسرد مرئي ليعود لمنتصف ثلاثينيات القرن الماضي "1936" بقصة فتاة تسمى "ماريا" أدى ركوبها الحصان خلف راعي مواشي لتأخرها عن العودة لمنزلها في البلدة، في يوم ماطر وعاصف لحتفها على يد الثوار حينئذ، الذي كان اقتناء وحمل السلاح حكرا عليهم فقط آنذاك.
الفلم التوثيقي خرج للضوء بعد مخاض شاق بعبقرية سرد مرئي، لائم فن التصوير، وبراعة الإخراج.
في ساحة كنيسة قديمة "كنيسة الخضر" وفي مناسبة يوم زيارة الموتى، وقفت امرأة وبشجاعة محسوبة تسرد القصة "الغُصّة": ماريا شابة جميلة، أوكلت عائلتها غسل "عار العائلة" للثوار، حيث سيقت الشابة لساحة الكنيسة لتنال "عقوبتها" رميا بالرصاص، نزولا لعادات ورثها المجتمع وحرمها الدين تحديدا إلا بأدلة قاطعة تماما، لأنها عادات من حمية جاهلية تعود لقرون خلت.
المؤلم في مشهد سرد المرأة تطرقها لثبوت عذرية "ماريا" بعد الفحص الطبي، حيث أن "العذرية من ثوابت" الفتاة في الديانة المسيحية ويعود ذلك للبتول السيدة العذراء "ع"
امتطاء الحصان خلف الراعي أودى بها، أودى بها هذا القدر الظالم، وكذلك المجتمع الأكثر ظلما من القدر، فما كان من ذويها إلا الانصياع لعادات ظلام حالك لازال يواكبنا.
كذلك يتطرق الفلم لصبية مسلمة تدعى "هيام" من قرية دير جرير، أُتهمت بشرفها وعلى خلفية ذلك أُجبرت من قِبل عائلتها على تجرع السم قسرا، لأنها حملت بعيدا عن العلاقة الزوجية، وادعت العائلة أن موتها كان نتيجة لنوبة قلبية.
مضاعفات ذلك الحادث الأليم، نجم عنه حرق عدة منازل ولمصنع يعود للمتهم في القضية، وهنا يبرز سطوة القضاء العشائري على حساب القضاء العام، وتدخله لحل تبعيات الحادث، وتهدئة الخواطر بين طرفي الحدث تمهيدا للصلح.
ما يلفت النظر هنا، أن امرأة تتبنى صواب عملية القتل على ما يسمى "شرف" العائلة وغسل عارها.
مشهد آخر لا يقل ألما وخطورة تضمنه الفلم "مغارة ماريا" لمحاولة قتل فتاة على يد شقيقها، نتيجة طعن بشرف الفتاة وتحريض من البيئة القريبة منها، إذ باغتها الشقيق بعدة طعنات لإثبات رجولته أمام المجتمع أولا، ولغسل "عار" العائلة ثانيا، نجت منها بأعجوبة.
الشقيق، سلم نفسه للشرطة الفلسطينية بعد محاولة القتل "الفاشلة" والملفت هنا أن عددا لا يستهان به من أفراد الشرطة أثنوا على هذا الفعل المشين، ولكن هناك من شجب ذلك لأن القانون هو المظلة التي تحمي الجميع.
الجاني أبدى ندما على فعلته بحق شقيقته بعد تأكده من عفتها.
المشهد الأبرز في الفلم لفتاة ظهرت تجثو على جثة صديقة لها في الشارع العام، التي تعرضت لطعنات قاتلة على يد شقيقها أيضا، وقدمت لها الاعتذار المؤثر لعدم تمكنها من إنقاذها.
الحادثة تلك تركت أثرا نفسيا وقلقا في وعي الفتاة التي آثرت إنقاذ صديقتها خشية على مصير شقيقتها المغنية في فرقة موسيقية صاخبة، وبمشهد توضيحي صرحت الشقيقة التي اضطرت لترك خشبة المسرح لاحقا خوفا على حياتها، إذ قالت: "نغني الحب المحرم علينا، وللأسف ما يعزز هذه الثقافة ما يصدر عن فتيات متنورات"
لم تخفِ المخرجة "خوري" في َمَعرض الفلم، الكم الهائل من الضغوطات النفسية والمادية التي مورست عليها لثنيها عن سبر غور تخلف مجتمع غارق في التمسك بقشور إرث بالٍ، لمنعة من الوصول للب مجتمعات عصرية ومواكبتها لبناء ما يليق بالمجتمع الفلسطيني، وتعرضت أيضا لكسر آلات التصوير والصوت لمنعها من تأدية رسالتها، والتي جوهرها أصلا تعديل قانون العقوبات المعمول به في مناطق الحكم الذاتي، والتي تحمي القاتل من خلال تخفيف عقوبته، مما أدى إلى زيادة جرائم القتل على خلفية "الشرف" حيث لا "شرف في الجريمة"
وكذلك تسلط الضوء على ما فشلت به المنظمات النسوية لإجبار المستوى السياسي الأول من توقيع قانون لا يخفف عقوبة القاتل على خلفية تلك الجرائم الأكثر قلقا وتهديدا للمجتمع الفلسطيني.