تأثيرات عالمية وأبعاد سياسية -2-
كوريا الشمالية، العودة إلى سياسة التفاوض المباشر
تُعتبر كوريا الشمالية ملفاً سياسياً حساساً، ومن المتوقع أن يستمر ترامب في سياسته السابقة عبر التفاوض المباشر مع الزعيم كيم جونغ أون الذي كان ترامب قد التقى به، في محاولة التوصل إلى اتفاقات تضمن استقراراً نسبياً على الأقل دون الوصول إلى حلول نهائية لنزع السلاح النووي.
روسيا وأوكرانيا، تقارب محتمل لإنهاء الصراع
فيما يتعلق بروسيا، قد يسعى ترامب إلى اتباع سياسة أقل تصادمية، معتبراً أن الانخراط الأميركي في الصراع الأوكراني الهادف إلى محاولة الغرب والناتو محاصرة وإضعاف روسيا ليس من مصلحة الولايات المتحدة على المدى الطويل. من المتوقع أن يكون هناك دفع نحو اتفاقيات جديدة مع موسكو (صفقات) من خلال علاقة إعجاب ترامب ومن حوله بشخصية بوتين بهدف تقليص التوتر في أوروبا، وذلك بطرق تخفف الضغوط العسكرية وتفتح باب المفاوضات حول ملفات تتعلق بالأمن الأوروبي والأسلحة وتضمن لروسيا البقاء بجزء من الأراضي التي تعتبر روسية في أوكرانيا.
الصين، تعزيز الصراع الاقتصادي والسيطرة على التكنولوجيا
ستبقى الصين المنافس الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة وخاصة في مجال تقنية التكنولوجيا والصناعات وذلك أيضاً بحكم رؤية أصحاب المليارات من حول ترامب. ومن المتوقع أن يعزز ترامب سياسة الضغط التجاري عليها من خلال فرض تعريفات جمركية جديدة وتشديد القيود على الشركات الصينية، مما قد يؤدي إلى تأثير معاكس بتطور مكانة التكتلات الاقتصادية وابتعادها عن النفوذ الأميركي وعن ما يسعى له ترامب، مثل تكتلات البريكس وشنغهاي وتنفيذ ما تم إقراره من إجراءات في لقاء البريكس الأخير في روسيا خاصة بشأن العملات بالتبادلات التجارية وإنشاء بنك موازي للبنك الدولي الذي تتحكم به أمريكا.
أمريكا اللاتينية، التحديات مع الأنظمة التقدمية اليسارية فيه
أتوقع أن تتخذ إدارة ترامب موقفاً أكثر تشدداً تجاه الأنظمة اليسارية والتقدمية في أمريكا اللاتينية ومحاولات التدخل في شؤونها، مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وغيرها التي فازت في انتخاباتها الأحزاب اليسارية الجديدة أو الراديكالية. ترامب قد يركز على فرض عقوبات جديدة عليهم ودعم المعارضة السياسية في تلك الدول، مما سيؤدي إلى توتر في العلاقات الدبلوماسية وتعقيد الأوضاع الاجتماعية والسياسية هناك.
أوروبا، دعم اليمين الشعبوي وتحديات الاتحاد الأوروبي والناتو
سيعزز فوز ترامب من صعود اليمين الشعبوي في أوروبا، حيث يتماشى شعار "أمريكا أولاً" مع طموحات العديد من الأحزاب اليمينية الشعبوية هناك التي باتت تطرح شعارات ما يسمى بالمسيحية الأوروبية والفوقيات القومية، والتي تعارض الهجرة وتدعو إلى السيادة الوطنية على حساب سياسات الاتحاد الأوروبي الموحدة إلى حد ما. هذا قد يؤدي إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي، مما يعمق التحديات الاقتصادية والسياسية ويضعف التعاون الأوروبي في مواجهة قضايا كالتغير المناخي والهجرة والسياسة الخارجية الأوروبية التي لم تخرج منذ الحرب العالمية الثانية عن التبعية للولايات المتحدة، اضافة إلى مطالبات ترامب منهم رفع موازنات حمايتهم من خلال الناتو، وهو أمر يشكل ازعاج لقادة أوروبا من أحزاب يمين الوسط الحاكمة من جهة ويشجع الدول التي تحكمها أحزاب اليمين الشعبوي مثل إيطاليا، النمسا، المجر، التشيك وأخرى غيرها.
تسارع بروز النظام الدولي المتعدد
إذن، يمكن القول أن عودة ترامب للرئاسة قد تُحدث تحولاً عميقاً في السياسة الدولية وهي ستضاف إلى متغيرات أخرى جارية بالعالم اليوم كالأوضاع في منطقتنا، حيث ستركز الولايات المتحدة على مصالحها القومية عبر نهج "أمريكا أولاً"، مما سيؤدي إلى إعادة رسم التحالفات والاستراتيجيات في عدة مناطق رئيسية بالعالم. فبينما قد تنسحب واشنطن تدريجياً من بعض النزاعات أو تعيد صياغة مواقفها، سيكون لهذا التحول تداعيات كبيرة على قضايا كالصراع في أوكرانيا أولا، ومستقبل العلاقات في الملفات التي أشرت لها بالبداية إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الأوروبية ومسألة الهجرة والمناخ وعلاقة شمال العالم بالجنوب من دوله. هذا التحول أمام السياسات التي من المتوقع أن تكون أحياناً غير متوقعة لترامب، إذا تحققت قد تدفع إلى تسارع خطوات بروز نظام عالمي أكثر تعددية ومرونة مناقض لما يريده ترامب من استمرار الهيمنة الأحادية القطب واتساع الترامبية بالعالم كسيد له، مع احتمال صعود دور القوى الإقليمية التي تسعى لتحقيق استقلالية أكبر بعيداً عن النفوذ الأميركي التقليدي.
وفي سياق التحولات السياسية في الولايات المتحدة، فقد أوضح بيرني ساندرز زعيم التيار التقدمي بالحزب الديمقراطي في تصريحات له بعد خسارة كامالا هاريس أمام دونالد ترامب، "أن الحزب الديمقراطي قد تخلى عن الطبقة العاملة والفقراء والأقليات، مما ساهم في اتساع الفجوة بين الحزب وناخبيه التقليديين. كما انتقد ساندرز استمرار الدعم العسكري الأمريكي لحكومة نتنياهو، موجهاً اللوم لقيادة الحزب على موقفه تجاه حقوق شعبنا الفلسطيني، والتي شكلت أحد الاسباب الإضافية للخسارة."
يبدو لي من القراءات حول الموضوع بالأيام الاخيرة، أن غالبية الأميركيين البيض فقدوا الثقة في الأنظمة المكونة للنظام السياسي لبلادهم واستغلال الأقلية لمواردها، الأمر الذي سيفتح المجال أمام تحركات مختلفة الاتجاهات وربما لجوء بعض الولايات إلى الانفصال والاستقلال ما يهدد الأساس الذي قام بموجبه هذا الكيان السياسي أي الولايات المتحدة وفق مكونات الدين والقهر القومي والمال وفكر الاستعمار الجديد، الأمر الذي يؤمن اليوم لنخبة رجال الأعمال المتعطشين للربح قدراً غير مقيد على استخدام منصاتهم ومحفظتهم المالية لتشكيل السياسة في ظل الترامبية، الأمر الذي يذكرنا بحالة مشابهة مع هتلر في بدايات النازية. حيث يبدو أن الساسة الجمهوريون قد ضحوا بنزاهتهم وبالديمقراطية الأميركية على مذبح السلطة لتصل النتيجة إلى ما وصلت له اليوم من بروز "لمنهج الترامبية" على حساب مبادئ الحزب الجمهوري التقليدية.
وفي هذا السياق، تبرز هنالك الأصوات المتزايدة التي تدعم حقوق شعبنا الفلسطيني بالشارع الامريكي وتحديداً بأوساط الشباب وفق استطلاعات أخيرة، سواءً عبر حزب الخُضر التي حصلت مرشحته التقدمية للرئاسة جيل ستاين على أقل بقليل من مليون صوت ومن تأييد جزء كبير من أصوات الجاليات العربية ومنها الفلسطينية ومن الناخبين المؤيدين للحق الفلسطيني. كما أن هنالك من بعض هؤلاء الناخبين الذين دعموا ترامب في ظل خيبة أملهم من الحزب الديمقراطي. هذا يشير إلى تحول ملموس في المشهد السياسي الأمريكي، حيث تظهر بدايات تشكل التيار الثالث كقوة متزايدة في التأثير على خيارات الناخبين الأمريكيين مستقبلاً ولو بشكل متواضع، ما قد يمكن البناء عليه مع الوقت ليُشكل بدايات تغير بالنظام السياسي الأمريكي، وهو موضوع سأتناول أهميته بالنسبة لقضيتنا الوطنية وتداعياته على تقدم مثل هذا التيار إجمالاً على مستوى العالم وتحديداً في أوروبا كما حدث بفرنسا وإلى حد ما في بريطانيا في مقال آخر، بعد أن بات الحق الفلسطيني هو أحد المعايير اليوم المكونة لنمو التيارات التقدمية حول العالم في مواجهة قوى اليمين الشعبوي بل والمحافظ المتحالفة مع الحركة الصهيونية.
لقراءة الجزء الأول من المقال على الرابط التالي:
https://www.masar.ps/ar/Article/1809