تفادياً للندم عندما لا يعود ينفع الندم، من الأفضل للمسؤولين اللبنانيين وزعماء الأحزاب، كلّ الأحزاب والقوى السياسيّة، امتلاك شجاعة الاعتراف بأن لا مجال في المرحلة الراهنة لأيّ نوع من المكابرة من جهة، وأن لا بديل من الاستسلام بطريقة حضارية من جهة أخرى. الاستسلام هنا، بمعنى الاستسلام للبنان ومصلحة لبنان واللبنانيين بعيداً عن أيّ عقد.
هناك وحشية إسرائيلية ليس بعدها وحشية تتمثّل في إقامة شريط عازل على طول “الخطّ الأزرق”، وهو خطّ الحدود المؤقّت بين لبنان والدولة العبرية. تدمّر إسرائيل قرى بكاملها، بيتاً بيتاً، وتهجّر السكّان كما حدث مع ميس الجبل الواقعة على تخوم “الخطّ الأزرق”. توجد قرى أخرى لقيت المصير نفسه فيما العالم يتفرّج وفيما الحزب مصرّ على متابعة حرب “إسناد غزّة” التي عادت على لبنان بالويلات من دون أن تخدم غزّة في شيء.
كان الوزير السابق، الصديق نهاد المشنوق، على حقّ. قال بالفم الملآن في لقاء مع الزميل مارسيل غانم قبل أيام قليلة عبر شاشة “إم. تي. في”: “أستغرب إسناد غزة. شو يعني إسناد غزّة. أوّلاً ماذا تغيّر في الميزان العسكري في غزة نتيجة دخول الحزب ولبنان هذه الحرب؟ لا شيء”. أضاف: “إذا كان هناك من دين على لبنان (فلسطينياً)، فقد دفعناه مرّة ومرّتين وثلاث مرّات ومن قلبنا. نحن، كمسلمين، قمنا بواجبنا ودفعنا المسيحيين وأخذناهم إلى أماكن صعبة ربّما ما كانوا ليذهبوا إليها. لماذا ندفع مرّة عاشرة؟”
من الضروري أن يكون لهذا الكلام العاقل والموضوعي صدى، والتفكير مليّاً في ما يجب عمله لبنانياً تفادياً للكارثة المقبلة بسرعة البرق. إنّها كارثة نزوح لبنانيين عن قراهم وتحوّلهم إلى لاجئين في مناطق لبنانيّة أخرى، أو في سوريا والعراق، بعدما كانوا يعيشون معزّزين مكرّمين في بيوتهم ويزرعون حقولهم.
في مواجهة هذه الكارثة التي بدأت ترتسم ملامحها، عبر تدمير 37 قرية، لم يعد ينفع أيّ نوع من أنواع التذاكي في التصدّي لها. ينفع كسر كلّ الحواجز ورفض التوقّف عند أيّ اعتبارات من أجل منع تكرار نكبة فلسطين عام 1948 في لبنان.
في حربها الجديدة على لبنان، وهي حرب تسبّب بها الحزب تنفيذاً لقرار اتّخذته “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، لا خيار آخر أمام الطبقة السياسية اللبنانية غير خيار الارتقاء إلى مستوى الحدث بدل التآمر على اللبنانيين، خصوصاً أهل الجنوب.
خسر لبنان حرباً تخوضها إسرائيل بطريقة مختلفة عن حروب الماضي بعدما أعدّت لها جيّداً. انتهت إسرائيل في أيلول الماضي من غزّة وتفرّغت للبنان وللحزب الذي يتبيّن يوميّاً كم كانت حساباته خاطئة. يتبيّن أكثر، أيضاً وأيضاً ومرّة بعد مرّة، أنّ هناك حدوداً لما تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” عمله في دعمها للحزب. يظلّ أخطر ما في الأمر أنّ إيران على استعداد لخوض حرب مع إسرائيل حتّى آخر لبناني. يظلّ همّها الأوّل والأخير المحافظة على النظام. وهذه ملاحظة أخرى في مكانها أوردها نهاد المشنوق.
نعم، لا مفرّ من كسر الحواجز، كلّ الحواجز، تفادياً لبقاء النازحين الذين هجّرتهم إسرائيل خارج بيوتهم وأرضهم. ثمّة من سيقول إنّه لا يوجد من هو مستعدّ لبناء ما تهدّم. الجواب أنّ الأولوية يجب أن تكون لعودة الناس إلى أرضها والعيش مؤقّتاً تحت أيّ نوع من الخيم أو الهنغارات في انتظار عملية إعادة البناء، وهي عمليّة ستتحقّق يوماً بأموال عربيّة ودوليّة. ستتحقّق في حال تحوّل الحزب إلى تنظيم سياسي بدل أن يكون ميليشيا مذهبيّة مسلّحة تتحكّم بلبنان وتمارس نشاطاً يهدّد الأمن العربي من المحيط إلى الخليج. نعم من شمال إفريقيا… إلى الخليج العربي!
تعمل إسرائيل على تفكيك مشروع الحزب في لبنان، وهو مشروع إيراني من ألفه إلى يائه. في أساس هذا المشروع جعل ضاحية بيروت الجنوبيّة الملتصقة بالمطار منطقة خارج سلطة الحكومة اللبنانيّة، منطقة قادرة على تهديد بيروت بشكل مباشر. أمّا الجانب الأهمّ في المشروع الذي في أساسه عسكرة شيعة لبنان وتغيير طبيعة المجتمع الشيعي، فهو ربط الجنوب بالبقاع. هذا ما يفسّر الشراسة الإسرائيلية في التعاطي مع بعلبك ومشغرة وبلدات وقرى ومدن أخرى… وصولاً إلى سدّ المنافذ بين لبنان وسوريا.
تفكّك إسرائيل دولة الحزب في لبنان وتبدو مصرّة على بقاء نازحي الجنوب خارج قراهم والتركيز في الوقت ذاته على تدمير أيّ مقوّمات اقتصادية للجنوب. الدليل على ذلك القضاء على الزراعة والضربات التي تستهدف مدينة مثل النبطية أو صور وبنت جبيل.
خسر الحزب حربه مع إسرائيل. لن تكون هناك معارك برّية، ذات حجم كبير، كي يراهن الحزب على استعادة المبادرة عسكرياً. كلّ ما في الأمر أنّ هناك ثمناً لا بدّ من دفعه. هنا يأتي دور الطبقة السياسية اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها، وهي طبقة يُفترض أن تعي معنى نكبة القرى الحدودية. مرّة أخرى الاستسلام ليس عيباً. ليس مطلوباً الاستسلام لإسرائيل بمقدار ما المطلوب الاستسلام أمام صيغة تحافظ على لبنان وقراه الجنوبيّة. الاستسلام في حدّ ذاته شجاعة وعمل مشرّف عندما يتعلّق الأمر بتفادي بقاء لبنانيين جنوبيين خارج قراهم المدمّرة على غرار بقاء مئات آلاف الفلسطينيين خارج أرضهم بعد نكبة 1948.
الأكيد أنّ الكلام عن الاستسلام لن يعجب كثيرين. لكنّ السؤال الطبيعي: ما البديل من الاستسلام بما يصبّ في مصلحة لبنان والمحافظة على أهل الجنوب… بعدما تبيّن أنّ حرب “إسناد غزّة” كانت انتحاراً للحزب وفق حسابات ورهانات إيرانيّة تبيّن أنّها في غير محلّها؟
كانت الحسابات والرهانات الإيرانيّة التي بات مطلوباً من لبنان دفع ثمنها في غير محلّها بعدما رفضت الإدارة الأميركيّة الحالية الدخول في أيّ صفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” على غرار صفقة الملفّ النووي لإدارة باراك أوباما في 2015، بانتظار ما ستفعله الإدارة الجديدة حين تستلم السلطة الفعلية في العشرين من كانون الثاني المقبل.