صدر الإعلان في 15\11\1988 عن دورة المجلس الوطني التي استضافتها مدينة الجزائر العاصمة، بمضمونه المعبّر عن أهداف المجتمع المنتفض سلمياً على جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وما جعل الحدث له بُعد مفصلي وتأسيسي وقتذاك، هو حراك القوى المجتمعية كافةً، واتحادها في النضال ونزولها للشارع في المدن والقرى وقد صار ميداناً لتحدّي جَيْش من نوعٍ خاص، أقرب ما يكون في بنيته إلى آلة حربية شرسة وصمّاء.
لذا كانت وما زالت "انتفاضة الحجارة" الحدث الذي نقل النضال الوطني إلى ذروة جديدة برؤيته ومفاهيمه، بعد مرحلة الكفاح المسلّح السابقة.
كما أنّ عمق الحراك السياسي المجتمعي واتّساع مداه شمل الشعب وقد نزل الميدان لنحو ثلاثة سنوات ونيّف وبيده حجر...ليس إلّا.
هكذا فازت "انتفاضة الحجارة" بتأييد مطلق من المجتمعات الفلسطينية في إسرائيل ودول الشتات. وأجبرت العالم الغربي على سماع المطلب الفلسطيني من موقع التقدير والإعجاب حتى وصل تأثير الانتفاضة إلى عمق المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته ورموزه القيادية، أدّت لنشوء أول كيان فلسطيني مؤسساتي شرعي بموجب القانون الدولي.
وبينما اليوم نشهد حرب إبادة في زمنٍ أسود. من المناسب تسجيل ملاحظتين ذات صلة في حالتنا الراهنة:
الملاحظة الأولى: أنّ "انتفاضة الحجارة" شكّلت رافعة للحركة الوطنية الفلسطينية، مكّنتها من مغادرة شروط تأسيسها خارج الوطن، لتصبح حركة مرتبطة بمصالح المجتمع في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لذا جاء "إعلان الاستقلال" مُعَبّراً عن خيارات مجتمعية مركزية وتحوّل إلى برنامج استقلالي مصلحي مختلف جوهرياً عن البرنامج المرحلي الذي أنتجته الفصائل عام 1974.
الملاحظة الثانية: أنّ "انتفاضة الحجارة" أحدثت تحوّلات جذريّة في البُنى والهياكل السياسية ارتباطاً بمصالح الشعب، حيث استطاع بوحدته الميدانية والسياسية وتلاقيه مع القيادة الفلسطينية إنتاج الشرعية مرةً أخرى لِتتقدّم للمجتمع الدولي بصفتها الجديدة، وليس باعتبارها ملتقى للفصائل ذات التوجّهات الأيديولوجية، والعلاقات المصلحية مع هذا النظام أو تلك الدولة.
وهكذا تمّ انتزاع الاعتراف الأميركي والإسرائيلي والسير نحو هدف بناء الدولة عبر "اتفاق المبادئ الأوّلي" المعروف بـِ"اتفاق أوسلو" الذي أنتج سلطةً وطنيةً مُخَوّلةً بصياغة نظام المصلحة الفلسطينية بشكلٍ يومي وترجمتها في الواقع.
استناداً لما تقدّم، لا بدّ من مسائلة أنفسنا عن فشل محاولات المصالحة بين حركة حماس وقيادة منظمة التحرير وكذلك مع قيادة السلطة الوطنية وأخيراً مع اللّجنة المركزية لحركة فتح؟ حيث وصلنا إلى النتيجة الصّفريّة على الرّغم من المساعي الداخلية والعربية والدولية.
وأمام هذا المشهد الهابط، أعتقد أنّ الفشل في المصالحة يعود إلى:
أولاً: ما يجري الآن من تعطيل الاتفاق على تشكيل مجرّد لجنة إدارية إغاثية هو نموذج لسلوك من يغلّب المصلحة الفئوية على المصلحة الوطنيّة في لحظة كارثيّة يعيشها الناس في قطاع غزّة.
ثانياً: أنّ مسألة المصالحة ليست من مهام حركة فتح إذ أنّ وزن الحركة لا يُعطيها صلاحيّة قيادة هذه المهمّة بقدر ما يسمح لها بالمساعدة على إنجازها.
ثالثاً: لا يمكن نقاش أيّ مصالحة وإجراء أيّ حوار يتجاوز على العقد الاجتماعي- السياسي الذي مثّله "إعلان استقلال فلسطين" بصفته الوثيقة المرجعية الأعلى للجميع حتى يتم إنجاز الدّستور الفلسطيني الموعود.
رابعاً: أنّ وزن حركة حماس الكبير لا يُعطيها الحق بالتنكّر للعقد الاجتماعي - السياسي لطالما أنّ المجتمع الفلسطيني متمسّك به حتى الآن ويناضل على هديّه.
خامساً: أنّ حركة حماس بصفتها حركة متمرّدة على نظام المصلحة الفلسطينية ليس لها أن تضع قواعد الحوار للمصالحة حتى لو وافقتها الفصائل، لأن المساس بالشرعية والخروج عليها هو نقطة البدء في إفشال الحوار، وهذا ما شهدناه في "إعلان بكّين".
سادساً: أنّ تشخيص التمرّد الحمساوي كتمرّد داخلي يستدعي من السلطة الفلسطينية حوارها في جغرافيّة الوطن فقط.
سابعاً: أنّ منطق المصالحة وغايتها يقوم على استعادة الحركة المتمرّدة إلى الشرعيّة على قاعدة تغيير سلوكها وسياساتها وليس على قاعدة تطويع الشرعيّة والقوانين والتجاوز على مضمون ونصّ وثيقة "إعلان الاستقلال".
ثامناً: أنّ كثرة الحديث عن "إصلاح منظمة التحرير" وإعادة البناء "وتقديس الإجماع الوطني" وما يتفرّع عنها من مصطلحات لا معنى دقيق لها ولا تعريف يُعتَدُّ به، إنّما يخدم تدوير الزوايا لصالح الأسلوب العشائري الذي ينتهي عادةً بالتخوين ويُضعِف خياراتنا الوطنية ويخترقنا بأجندات ليست فلسطينية.
أخيراً، لا بدّ من إعادة النظر في فهمنا وسلوكنا واستراتيجيّاتنا لبناء دولة فلسطين على أنها لا تحتمل الخلط بين مفاهيم الثورة وفلسفة حركات التحرّر القديمة مع مفاهيم بناء الدولة في عالمنا المعاصر.
وفي هذه العُجالة، يُمكن التنويه بأنّ مؤسسة السلطة الوطنية ارتكبت خطأين لم يجري نقاشهما باستقامة منهجية تصون نظام المصلحة الفلسطيني:
الخطأ الأول: حصل أثناء المرحلة الانتقالية في تطبيق "اتفاق أوسلو" (1993-2000) عندما اعتمد الرئيس ياسر عرفات سياسة الاحتواء والاحتضان والأخوّة مع حركة حماس بينما هي تشنُّ الحرب المعلَنة "لاسقاط الاتفاق" وتمارس العنف وفق نموذج العمليات الانتحارية ما أدّى واقعياً إلى تكريس ازدواج السلطة في الضفة والقطاع.
الخطأ الثاني: حدث في لحظة التحضير لانتخابات المجلس التشريعي الثانية في مطلع عام 2006 حيث سُمِحَ لحركة حماس بالمشاركة بالانتخابات من دون إعلان مسبق بِتَبَنّيها الخيارات الوطنية التي أرساها "إعلان الاستقلال" وبالتزامات السلطة تجاه إسرائيل والمجتمع الدولي.
هذا الخطأ ليس مرتبطاً بقرار الرئيس محمود عبّاس فحسب، بل على صلة بالضغوط الاستثنائيّة التي مارستها واشنطن في ذاك الوقت. لذا، لا بدّ من كشف الوثائق الأرشيفيّة الخاصة بها، حتى نستطيع إجراء تقييم موضوعي لِلحدث وتداعياته المستمرّة على النظام السياسي الفلسطيني الوليد.
والمفارقة هنا، أنّ حركة حماس تكيّفت مع قوانين وقواعد "اتفاق أوسلو" بينما استمرّت رافعةً شعار إسقاطه حتى الآن.
إنّ التجاوز على الخيارات الوطنيّة الكبرى المُوَثّقة وازدواجية السلطة حطّم عناصر قوّة النظام السياسي الفلسطيني داخلياً ومكّن أعداء قيام دولة فلسطين من تنفيذ سياساتهم كما نرى الآن ونشهد.