فتاوى السياسة وأزمة مجتمعاتها..!

 

 

 

أثارت فتوى للشيخ سليمان الداية من غزة جدلاً كبيراً في أوساط الفلسطينيين وخصوصاً بين الغزيين الذين يكتوون يومياً بنار المحرقة التي تنفذها إسرائيل منذ أكثر من ثلاثة عشر شهراً.
أعترف بأنني لم أسمع بالدكتور الداية ولم أفكر بقراءة فتواه ببساطة لأن للسياسة رجالها ومفكريها وهو ليس واحداً منهم ولا يدخل علم السياسة ضمن اختصاصه، فهو علم مستقل بذاته أفردت له الجامعات في العالم مقررات مختلفة عن مقررات الدين.
لكن صحافياً من كبرى الصحف العالمية هاتفني ليسألني عن الفتوى إذا كانت لدي أم لا لأبحث عنها ثم لأجد شخصية دينية أخرى لا علاقة لها بالسياسة أيضاً هو مجرد شيخ ديني هو الدكتور ناصر قنديل يرد بالاتجاه المعاكس للشيخ الداية.
ولكل شيخ مريدوه الذين يتلقفون ما يقول ويعيدون ترويجه كأنه صادر عن خبراء السياسة أو مراكز الدراسات التي يعتد بها.
بحثت في محرك البحث غوغل عن الشيخين لأجد لهم فتاوى عن حقوق الأبناء على الآباء وصرف المرأة زكاة مالها على زوجها إذا كان فقيراً ومناسك فريضة الحج وحج المرأة دون محرم وكثير من القضايا التي تدخل في إطار اختصاصهم كأساتذة في علم محدد ومخصص هو العلوم الدينية.
لكن أن يذهب هؤلاء حد الفتوى في السياسة وأن يتم تناقل ما يقولانه فتلك أزمة مجتمع تتداخل فيها الأشياء والاختصاصات لدرجة يصبح فيها رجل الدين مفكراً سياسياً.
قد أفهم أن المجتمع الفلسطيني في غزة تعرض لأسوأ هزة إنسانية ووطنية واجتماعية بجانب تعرضه لهزيمة سياسية لم يكن يفكر بها في أسوأ كوابيسه، ويحتاج لسنوات طويلة لترميم ما خلفته هذه المغامرة الكبرى بفعل سلوك السياسيين وقلة حساباتهم. وما قدمه المحللون السياسيون على شاشات الفضائيات من أداء شديد التواضع حد الجهل جعل المواطن يبحث عن المنجمين أمثال ليلى عبد اللطيف وميشيل حايك أو شيوخ الدين لتفسير عمق المأساة يأساً من الساسة الذين قدموا هذا العرض البدائي خلال السنوات الماضية لينتهي بهم الأمر عند هذا الحد.
هل يحتاج الفلسطيني إلى من يشرح له بالنصوص الدينية أن ما حدث ليس سوى مغامرة بريئة ناتجة عن تفكير متسرع كان ثمنها شديد الفداحة ؟
فالواقع أشد قسوة من كل الأفكار وقد أعطى من حكمة الواقعية السياسية دروساً هائلة في علم الصراعات التي تحتاج إلى ذكاء خاص وحسابات دقيقة تقرأ مناخات الواقع بالكيمياء وليس بالرياضيات، بالإمكانيات وليس بالرغبات والإرادة، النوايا الطيبة بالواقع العربي والدولي وليس بالأمنيات.
ما حدث في غزة والقرار الذي اتخذ ببراءة وطنية كانت تقف خلفه مرجعيات ونظريات دينية تجسدت في مؤتمر عقد في غزة تحت اسم «وعد الآخرة»، وهو الذي أضاء لدى مفكري السياسة وكتابها كل الأضواء الحمر محاولين التحذير من خلط الدين بالسياسة إلى هذا الحد الذي سيؤدي إلى مغامرة فادحة، سبقه طبعاً انتخاب لرؤساء البلديات في مدن الداخل التي سيتم تحريرها كالمجدل ويافا وأسدود تحضيراً لضرب إسرائيل بالضربة القاضية، وجرت قبلها أيضاً مناقصة لإنشاء محراب للمسجد الأقصى ومسابقة خطيب المسجد.
هكذا كانت تسير الأمور كمقدمات لأخطر قرار انتهى بغزة إلى ما انتهت إليه.
في كتابه «الدولة اليهودية» كتب الأب الروحي للحركة الصهيونية ثيودور هرتسل عن متديني اليهود قائلاً: «أما الحاخامات فينبغي حجزهم في كنسهم وألا يتدخلوا في السياسة».
وهكذا أنشأت إسرائيل دولة حيدت فيها رجال الدين عن السياسة لتنشئ دولة قوية بعيدة عن  تدخلات الحاخامات التي أخذت تتنامى في العقود والسنوات الأخيرة ليصبح للمرجعيات الدينية شأن في إدارة السياسة لتشهد إسرائيل تراجعاً قانونياً وسياسياً واقتصادياً وسيستمر طالما استمر الميل الذي يجسده وصول سموتريتش وبن غفير لعالم السياسة.
أوروبا التي شهدت عصور ظلامها الأشد سواداً كانت في مراحل سيطرة الكنيسة على السياسة حين كانت السياسة تحت سيطرة الكرادلة والباباوات، ولم تقلع إلا عندما خلعت رداء الكنائس وخصخصت الدين وأعادت رجاله إلى مكانهم الطبيعي لتجد نفسها بفعل عزل هؤلاء تراكم قوة تنطلق فيها لتحتل العالم بدل غرقها في أساطيرهم بعد أن كانوا قد صنعوا من ذواتهم قادة وسادة المجتمعات ومرجعياتها السياسية أودوا بهم للخراب والتخلف والصراعات البروتستانتية الكاثوليكية.
هل يحتاج المجتمع لشيخ متخصص في علوم الدين في ظل واقع دولي معقد وأجيال من الأسلحة، واقع انتهت فيه مقولات الفروسية والشجاعة في زمن الكواد كابتر وتفجير البيجر عن بعد وطائرات من غير طيار أن يشرح خطأ أو صواب قرار سياسي ؟
وهل يحتاج المجتمع إلى من يرد عليه بنفس المنطق مستدعياً تجارب معارك قديمة ليسقطها على معارك التكنولوجيا بأجيالها الحديثة ؟ فالأزمة ليست أزمة الشيوخ أنفسهم فمن حقهم أن يتحدثوا كأفراد في السياسة مثلهم مثل أي إنسان يعيش واقعاً معيناً، لكن الأزمة في مجتمعات لم تصل مرحلة التخصص بعد تتناقل أحاديثهم وفتاواهم السياسية بِنَهَم كأنها صادرة عن أصحاب الاختصاص.
وتلك رواية تطرح كثيراً من الأسئلة: هل لفشل السياسيين والإحباط  منهم أم لأن المجتمعات ما زالت تعتبرهم أهلاً لعلم السياسة وبديل مراكز دراساتها ومفكريها ؟ وتلك معضلة.

 

 

 

 

Loading...