جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية

مع احتدام المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار على جبهة جنوب لبنان في ظل تطورات موقف محكمة الجنايات الدولية بإصدارها مذكرات التوقيف بحق نتتياهو وغالانت الأمر الذي دفع بزعيم المعارضة لابيد بتقديم رؤيته السياسية أمس حول مستقبل المنطقة وضرورة التخلص من الحكومة الحالية، الأمر الذي قد يتم استغلاله بمزيد من تصعيد المواجهات إن كان من حزب الله وإيران أو من نتنياهو.

في هذه التقاطعات تثار تساؤلات حول مدى استعداد حزب الله لقبول اتفاق منفصل عن الوضع في غزة، وهو الأمر الذي قد يعيد تشكيل استراتيجيات المقاومة ويؤثر على مواقف الأطراف الإقليمية والدولية من جهة، وعلى استمرار المآسي الانسانية في قطاع غزة أمام وحشية عدوان الإبادة والتهجير والتجويع. منذ بداية المواجهة، رفع حزب الله شعار وحدة الجبهات كوسيلة لتعزيز الضغط على إسرائيل ومنعها من تقسيم المواجهات أو استغلال ظروف كل جبهة على حدة. ولكن مع تعاظم الضغوط الدولية وتزايد التكلفة الإنسانية، يبدو أن الحزب أمام تحديات كبيرة في إعادة تقييم هذا الربط الإستراتيجي دون أن يخضع لمسار تفاوضي تحت النار كما يريد نتنياهو، بل إن خطاب أمينه العام الجديد قد أكد على سيادة لبنان واعتبار تل أبيب بمعادلة بيروت في عمليات القصف الصاروخي الذي يقوم به ويجعل منه أمراً مكلفا لدولة الاحتلال خاصة بالشمال وعلى مستوى الخسائر الاقتصادية من جهة والبشرية في صفوف جنود الاحتلال غير المسبوقة من جهة أخرى.

سياسة الربط بين الجبهات، ضرورة أم عقبة؟

لطالما اعتمد حزب الله في خطابه على تعزيز الترابط بين غزة وجنوب لبنان، ضمن رؤية أكبر لما سمي بمحور المقاومة. هذا الربط يعكس الإطار الإيديولوجي والسياسي للحزب الذي ينظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها مركز الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن تعقيد الظروف الميدانية قد يجعل الحفاظ على هذا الربط مكلفاً في الوقت الحالي أمامه. إذ أن قبول وقف إطلاق نار منفصل قد يُنظر إليه من جانب حزب الله كضرورة تكتيكية لتجنب تصعيد شامل قد يجر لبنان إلى مواجهة غير مرغوبة تضع حزب الله في موقع المسؤول أمام بعض الأطراف اللبنانية الأخرى التي تروج لعقلية الاستسلام مما قد يضع لبنان أمام مخاطر حرب أهلية تحرض عليها القوى التي اعتدنا على تسميتها بالقوى الانعزالية سابقاً والتي لم توفر جهداً في معاداة الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية منذ سبعينات القرن الماضي.

في المقابل، التخلي عن هذا الربط يضع حزب الله أمام تحديات داخلية مع قاعدته الشعبية التي تتوقع موقفاً ثابتاً تجاه ما يجري في فلسطين. كما أن الحلفاء الإقليميين له، مثل إيران وسوريا والحركات الأخرى باليمن والعراق الموالية لإيران، قد ينظرون إلى أي خطوة باتجاه الاتفاق المنفصل كإشارة على تراجع وحدة ما أتفق على تسميته بالمحور ووحدة الساحات.

موقف حزب الله بين الثبات والمرونة

تتعدد السيناريوهات أمام حزب الله في التعامل مع هذه المعضلة. فمن جهة، قد يسعى الحزب إلى تقديم خطاب مُقنع لمؤيديه مفاده أن قبول وقف إطلاق نار منفصل لا يعني التخلي عن غزة، بل هو جزء من استراتيجية طويلة المدى في مفهوم وممارسة المقاومة للمشروع الصهيوني من جانب ولتعزيز دور إيران وروسيا بالمنطقة من جانب آخر. يمكن أيضاً للحزب أن يطالب بضمانات دولية تلزم إسرائيل بعدم خرق الاتفاق، مما يعطيه مبرراً للتعامل مع هذا الخيار دون التنازل عن مواقفه المبدئية، رغم أن لا شيء قد يُلزم إسرائيل بالتعاطي مع أية ضمانات مستقبلية.

ومن جهة أخرى، قد يستخدم الحزب موقفه الحالي كورقة ضغط لتحصيل مكاسب سياسية وأمنية أكبر، سواء في لبنان أو على مستوى الإقليم. هذه المكاسب قد تشمل ضمان بقاء دوره السياسي وتجنب أي اتفاق يحد من قدرة المقاومة بالجنوب بالرد على التهديدات الإسرائيلية، ويحافظ على الدور الإيراني بالإقليم أيضاً الذي يسعى لتطوير مكانته كلاعب هام.

 الإقليم والدول الكبرى، دور في ترسيم الخطوط

زيارة المبعوث الأمريكي هوكستين للبنان تأتي في سياق هذه المفاوضات الحساسة، حيث يركز الجانب الأمريكي على تهدئة التوترات ومنع التصعيد الإقليمي وتحقيق إنجاز سياسي لإدارة بايدن المغادرة خاصة في ظل استمرار الأوضاع المتوترة في غزة وتفاقم الصراع في أوكرانيا.

على الجانب الآخر، تُصر إسرائيل على ضمان حرية عملها العسكري في المنطقة ويرى نتنياهو إن أي اتفاق يُبرم الآن قد يُعتبر تنازلاً لإدارة بايدن، وهو ما يتعارض مع طموحاته التي تتطلع إلى تحقيق إنجازات استراتيجية مع حليف أكثر التزاماً بمصالح إسرائيل دون شروط أي ترمب. لذا، فإن تكتيك التأجيل والمناورة يشكل أحد أدوات نتنياهو لتعزيز مواقفه محلياً ودولياً واندفاعه أكثر إلى مزيدٍ من التطرف بعد قرار الجنائية الذي اعتبرته كل الأطراف الإسرائيلية "معاديا السامية" كعادتها مما يتيح لنتنياهو مزيداً من "البطولات الوطنية".

هذه التطورات قد ثير تساؤلات حول مدى إمكانية الوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف بالوقت الحاضر. في هذا السياق، يبقى دور الدول الكبرى، مثل إيران وروسيا، حاسماً في توجيه مسار المفاوضات والتأثير على مواقف حزب الله، بفعل رغبة إيران بتعزيز مكانتها في أية مفاوضات تتعلق بالملف النووي لاحقاً، والرغبة الروسية بدعم صيني بتصعيد سياسة الضغط على الولايات المتحدة في ظل تأزم الملف الأوكراني.

نحو أفق جديد؟

مع تصاعد وتيرة الجهود الدبلوماسية، يبدو أن الأيام القادمة ستحمل إجابات حول مستقبل الجنوب اللبناني وعلاقته بغزة. حيث الشراكة الأمريكية قد تفرض على إسرائيل قبولها بصيغة اتفاق مع لبنان، بمقابل أن هذه الشراكة وهذا الدعم يُترجم على الأرض بتمكين إسرائيل من تنفيذ مشروعها المعروف بخطة الجنرالات، الذي يهدف إلى تقسيم غزة جغرافيا وحصرها في مساحة ضيقة لا تتجاوز 200 كيلومتر مربع مع عزل المنطقة الشمالية وإحكام الحصار عليها. هذه الخطط لا تهدف فقط إلى تحقيق مكاسب ميدانية، بل إلى فرض واقع سياسي جديد يخدم رؤيتها الاستيطانية وأهداف إسرائيل التوسعية ومن ضمنها طبعاً مشروع ضم مناطق استيطانية من الضفة الغربية التي يعتبرها ترمب شرعية، وقد يكون الثمن من خلال صفقة يقدمها ترمب في أراضي النقب تكون ضمن أراضي الدولة الفلسطينية وفق مفهومه لها بصفقة القرن.

حزب الله الذي يواجه ضغوطاً داخلية لبنانية وإقليمية عربية، سيحاول موازنة مواقفه للحفاظ على صورته كحزب سياسي لبناني اليوم واستمرار دوره كحركة مقاومة فعالة دون التنازل عن استراتيجياته الكبرى. في النهاية يبقى السؤال: هل يمكن تحقيق هدنة مستقرة دون الإضرار بمبدأ وحدة الجبهات، أم أن الضرورات التكتيكية ستفرض مساراً جديداً قد يعيد تشكيل معادلة الصراع خاصة مع صدور مذكرات الاعتقال من الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت واقتراب تسلم ترمب لمقاليد البيت الأبيض في ظل تصاعد الاتهامات بحق رجاله بالإدارة الجديدة من جانب الحزب الديمقراطي؟

 

Loading...