قبل عامٍ ونيف، أكدت حركة حماس أنها تهدف من وراء السابع من أكتوبر إلى التخلص من الاحتلال، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وادّعت أنها قادرة على تحقيق كل ذلك وأنها قادرةٌ على دفع كل ما تهدد به إسرائيل، بل استخفت بقدرة الأخيرة على تنفيذ تهديداتها. " فقد صرح القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق عبر قناة الغد بتاريخ 8 أكتوبر 2023، أن إسرائيل لا تملك الشجاعة على الدخول براً للقطاع، بل أنه تحدى إسرائيل بأن تحاول شن هجوم بري، كما صرح المصدر نفسه بتاريخ 8 آب 2023، على نفس القناة رداً على سؤال حول عدم مشاركة حركة حماس في الحرب التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي بأن "المعارك لا تخاص بإرادات فردية، ولا من أجل أهداف جزئية تجر الشعب بأكمله لمعركة لا يريدها، وإن أي معركة يجب أن تكون محسوبةً ومخططاً لها، وأن أي قرار يجب أن يكون مشتركاً حتى يستطيع الجميع إعداد العدة واستنهاض الهمة". وبعد شهرين فقط من هذا التصريح تسمح حماس لنفسها باتخاذ قرار الدخول في معركة جرّت الشعب الفلسطيني الأعزل ليواجه وحيداً إبادة جماعية لا طاقة له ولا لأي شعب على وجه الأرض بها.
لم يبق تهديدٌ لم تنفذه إسرائيل على أرض الواقع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أعادت احتلال 33% أي ما يعادل ثلث مساحة قطاع غزة، وأنشأت ما تسميه المناطق العازلة، واحتلت المعبر الفلسطيني الوحيد الذي لم يكن للاحتلال سيطرةٌ عليه، وأنشأت منطقة في قلب القطاع تشطره نصفين وتعزل شماله عن وسطه وجنوبه عزلاً كاملاً، ومحت مدن ومناطق سكنية شاسعة عن الوجود، وتمعن في ارتكاب جريمة إبادة جماعية للشعب الفلسطيني ربما لا تشبه أي إجرام في العالم إلا جريمة إبادة السكان الأصليين في العالم الجديد على يد الغزاة الأوروبيين. ومع كل ذلك ترفض الأحزاب صاحبة قرار طوفان الأقصى الاعتراف بوقوع أي خطأ من أي نوع، حتى لو كان في تقدير ردة فعل الاحتلال على السابع من أكتوبر.
ولا نزال نمعن في عدم الاعتراف بالأخطاء، والتنصل من تحمل المسؤولية، وغياب ثقافة المحاسبة والمسائلة أو حتى عملية تقييم دورية للأداء والقرارات لاستخلاص الدروس والعبر. ناهيك عن عدم وجود مؤسسة مرجعية جامعة للكل الفلسطيني تجري أبحاثاً وتضع خططاً واستراتيجيات على المستويات القريبة والبعيدة. كيف يمكن كل ذلك وقد عمل الإسلام السياسي لعقود على إفساد الوطن العربي بنشر الأصولية الدينية وثقافة القضاء والقدر، التي زرعت في عقول الناس أن الاحتلال وجرائمه ليس إلا قدراً مكتوباً لا مفر منه ولا مسؤولية لأحد عليه لأنه أمر إلهي.
وكيف يصير الحال إن كانت هذه الأحزاب متدثرةً بثوب ديني يحميها من أي انتقاد أو مسائلة، تستخدمه كما يستخدم واقٍ الرصاص للحماية من مقذوف ناري، فكيف لأحد أن ينتقد حزباً يقدم نفسه كممثل لدين الله على الأرض ومتحدثا باسمه؟! مدعومة بجيش من الإعلاميين والمحطات الفضائية التي تنفق المليارات وتستضيف من يسمونهم خبراء ومحللين سياسيين وعسكريين، أقل ما يمكن وصف نسبة ليست قليلة من تحليلاتهم بأنها "تهريج" يهدف وبشكل ممنهج إلى تضليل الجماهير بدلاً من توعيتهم، وإلى تحميل المسؤولية كاملة لأطياف فلسطينية –ليس من بينها من اتخذ قرار السابع من أكتوبر- وتحرًض الرأي العام ضد دول عربية بعينها خدمة لأهداف سياسية لا تصب في مصلحة شعبنا ولا قضيتنا، بدلاً من التركيز نحو الخطر الوجودي المحدق بالشعب الفلسطيني، وضرورة وقف الإبادة التي يجب أن تكون أولوية الأولويات.
فما يسمونه "معارك ضارية" لا يمكن أن يكون صحيحاً بالمعنى العسكري، لأن أبسط مقومات المعركة يتطلب وجود خصمين متكافئين في القوة العسكرية والتكنولوجية. ورغم أن تلك العمليات أوقعت خسائر ليست بالقليلة لدى الاحتلال فإنها لم تستطع منع أي من مخططاته التي أعلن عنها منذ أول يوم للحرب وحسب، بل لم تستطع حتى لجم وحشيته أو تخفيف وطأة العذاب الذي أذاقه هذا العدو الإبادي المجرم للناس ألواناً. وأحياناً تصدر تلك التحليلات بذريعة "رفع المعنويات"، إن ذلك لا يجعلها مهنية ولاأخلاقية، فالمعنويات يجب أن تبنى على شجاعة تحليل الواقع كما هو وليس على تزييفه.
وما لا يقل خطورة هو فكرة محور المقاومة، التي تبلورت مع حزب الله اللبناني وامتدت لحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وغيرها من الدول، وتم فرض واقع جديد، إن لم تكن معنا فأنت ضد المقاومة وتهم التخوين وحتى التكفير حاضرة بانتظار أي نقد. إن مبدأ المقاومة أسمى من أن يعامل كحرفة أو علامة مسجلة حتى يحتكره أحد، فالمقاومة حق وواجب مقدس وأصيل لكل شعب يرزح تحت نير الظلم والاحتلال، ولأنها كذلك فإن مشاركة الجميع بها وباتخاذ قراراتها ونقدها وتصويب مسارها حقٌ وواجبٌ أيضاً.
وأختم بما نشره المفكر الفلسطيني ابن مدينة رفح أحمد أبو ارتيمة عبر صفحته على فيسبوك:" البطولة التي أعرفها تعني شيئا واحداً، الواقعية في فهم قدراتك والظروف المحيطة والمحافظة على بقاء شعبك في مواجهة مخطط الإبادة وعدم تحميل الناس أكثر مما يطيقون، وحين تتورط في مواجهة غير متكافئة فالخروج بأقل الخسائر، وما يبدو استسلاما أحيانا هو ذروة البطولة إن كان منطلقا من الإحساس بمأساة الناس والحرص على ايقاف نزيفهم. البطولة ليست عناداً ولا تجاهلاً لمعطيات الواقع واختلال موازين قوى البطولة هي المسؤولية والمحافظة على بقاء أبناء شعبك حين يكون الهدف إفناء شعبك".