لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

 

 

 

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل، في عجلة من أمرهما. يبقى الثابت لبنانيّاً أنّ ما بُني على حسابات خاطئة في غزّة، وقبل ذلك في الداخل اللبناني وفي سوريا تحديداً، لن يأخذ الحزب، ومن خلفه إيران، إلّا إلى مزيد من الحسابات الخاطئة.

يدفع لبنان حالياً من دم أبنائه وأرزاقهم ثمن هذا المسلسل الطويل من الأخطاء التي بدأت عمليّاً بتوقيع اتّفاق القاهرة في تشرين الثاني من عام 1969.

كانت الحسابات اللبنانية للحزب خاطئة دائماً حتّى عندما حقّق انتصاره الكبير في أيّار من عام 2000 عندما قرّر الجانب الإسرائيلي تنفيذ القرار 425 الصادر في عام 1978 والانسحاب من جنوب لبنان نهائياً. جاءت الأحداث المستمرّة منذ نحو 14 شهراً تتويجاً للتخلّي التدريجي عن السيادة. ترافق ذلك مع ما آل إليه وضع لبنان الذي يمرّ بمرحلة مصيريّة في ضوء انهياره اقتصاديّاً أكثر والفراغ السياسي الذي يعبّر عنه الإصرار الإيراني، عن سابق تصوّر وتصميم، على منع انتخاب رئيس للجمهوريّة.

بنى الحزب حساباته على الحسابات الخاطئة لـ”حماس”، أو لجناح في الحركة بقيادة الراحل يحيى السنوار الذي شنّ في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023) هجوم “طوفان الأقصى”. من هنا، كان طبيعياً أن يكون ما أقدم عليه، على الصعيد اللبناني، بمنزلة جريمة موصوفة لا مفرّ من دفع ثمنها عبر اتّفاق لوقف النار مع إسرائيل أقلّ ما يمكن أن يوصف به أنّه مذلّ.

لكنّ هذا الذلّ يبقى من النوع الذي يمكن تحمّله، خدمةً للمصلحة الوطنيّة، بالمقارنة مع ما عاناه لبنان في السنوات العشرين الأخيرة. قبل عشرين عاماً بدأ مسلسل الاغتيالات بمحاولة اغتيال النائب الحالي والوزير السابق مروان حماده يوم أوّل تشرين الأوّل 2004. تلَت ذلك جريمة اغتيال رفيق الحريري، في 14 شباط 2005، أي اغتيال مشروع إعادة الحياة إلى لبنان وأخذه موقعه الطبيعي على خريطة المنطقة.

لم يفهم الحزب يوماً خطورة خوض حرب “إسناد غزّة”. احتفل الحزب بـ”طوفان الأقصى” في الذكرى السنوية الأولى للهجوم الذي غيّر طبيعة المنطقة كلّها وهزّ إسرائيل في العمق. اعتقدت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران أنّه سيكون في استطاعتها استغلال “طوفان الأقصى” إلى أبعد حدود عبر حروب أخرى تشنّها على هامش حرب غزّة، خصوصاً انطلاقاً من فتح جبهة جنوب لبنان. ما لبثت هذه الحروب أن ارتدّت على إيران الساعية إلى تفادي أيّ مواجهة مباشرة مع أميركا وإسرائيل.

لم يأتِ فتح جبهة جنوب لبنان من فراغ. لم يمهّد التخلّص من رفيق الحريري لامتلاك “الجمهوريّة الإسلاميّة” قرار الحرب والسلم في لبنان فحسب، بل مهّد أيضاً لوضع اليد الإيرانيّة على رئاسة الجمهورية في لبنان وعلى كيفية تشكيل الحكومات وتكريس وجود الثلث المعطّل. الأهمّ من ذلك كلّه يأتي تضمين أيّ بيان وزاري للحكومة البنانيّة عبارة “الشعب والجيش والمقاومة”، التي هي تصريح مرور للحكومة. باتت تلك العبارة شرطاً لا بدّ منه كي ترى الحكومات اللبنانية النور. هل من اعتداء على السيادة اللبنانية أكثر وقاحة من هذا الاعتداء؟

هناك بلد ابتلع ما سمّاه الرئيس ميشال سليمان “الثلاثيّة الخشبية”، التي جعلت من سلاح الحزب، وهو سلاح لميليشيا مذهبيّة في خدمة الأجندة الإيرانية ومشروعها التوسّعي في المنطقة، سلاحاً شرعياً. جلبت هذه “الثلاثية الخشبية” حرب “إسناد غزة” التي أدّت إلى كارثة حقيقية. لا يقتصر الأمر على تدمير نحو أربعين قرية جنوبيّة تدميراً كاملاً ولا على تدمير جزء من الضاحية الجنوبية وقرى بقاعيّة. يوجد حالياً نحو مليون ونصف مليون نازح لبناني. ليس معروفاً ما النتائج التي ستترتّب على وجود هؤلاء خارج بيوتهم وقراهم وأرضهم في المدى الطويل؟

مقارنة بكلّ المصائب والكوارث التي مرّ بها لبنان منذ توقيع اتّفاق القاهرة، مع ما يعنيه من تخلٍّ عن السيادة لمنظّمة التحرير الفلسطينية، ثمّ لسوريا، وأخيراً لإيران، تبدو المرحلة الراهنة أمّ المصائب والكوارث.

يوجد ثمن لا مفرّ من دفعه من أجل وضع حدّ لأمّ المصائب والكوارث، خصوصاً أنّه لم يعد يمرّ يوم من دون وقوع مزيد من الضحايا والمآسي. لا يمكن التذرّع بالسيادة اللبنانية من أجل تفادي التوصّل إلى صفقة توقف الوحش الإسرائيلي حتّى لو كان ذلك يعني إجراء تعديلات على القرار 1701 وآليّة تطبيقه. من يفعل ذلك فإنّما يعيش في عالم آخر لا علاقة له بما يدور على الأرض اللبنانية من جهة، وما تسعى إليه “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي تريد كسب الوقت من جهة أخرى.

في النهاية، من ابتلع عبارة “الشعب والجيش والمقاومة”، في كلّ بيان وزاري لأيّ حكومة تشكّلت في السنوات العشر الأخيرة وربّما قبل ذلك، يسهل عليه القبول بآليّة مختلفة أكثر فعاليّة لتنفيذ القرار 1701 بكلّ بنوده. يظلّ وقف النار، مع ما يعنيه ذلك من إنقاذ لأرواح لبنانية وحدّ للنزوح من مناطق معيّنة مستهدفة إسرائيلياً، أهمّ بكثير من التمسّك بسيادة باتت مفقودة منذ فترة طويلة، أي منذ 55 عاماً بالتمام والكمال.

بعض الواقعية أكثر من ضروري، وكذلك بعض التواضع والتوقّف عن رفع الشعارات الطنّانة والدخول في مزايدات لا طائل منها. الدليل على ذلك ما حلّ بغزّة التي أزالتها إسرائيل من الوجود فيما العالم يتفرّج مكتفياً بضرورة وقف الحرب اليوم قبل غدٍ… ولا من يتجاوب أو يستجيب.

في حال لم يكن لبنان قادراً على تعلّم شيء من تجارب الآخرين وأن يتفادى البناء على حسابات خاطئة كما فعل الحزب عندما بنى على حسابات السنوار و”حماس”، لماذا يرفض التعلّم من تجارب خاصّة به تتكرّر منذ عام 1969؟

 

 

 

Loading...