تشهد المنطقة العربية التي سماها قبل عقود الأمريكان بالشرق الأوسط ومنطقة وسط أوروبا الشرقية صراعات تُبرز تحوّلاً خطيراً في الاستراتيجيات الغربية الأنجلوسكسونية، بقيادة الولايات المتحدة، التي تسعى لإضعاف الحضارتين العربية والشرقية من خلال أدواتها المختلفة، أبرزها إسرائيل في الشرق الأوسط وأوكرانيا في أوروبا الشرقية إضافة إلى تايوان ومحاولاتها السيطرة على تلك المناطق لاعتبارات جيوسياسية واقتصادية هامة أيضاً.
القضية الفلسطينية، إسرائيل كنقطة انطلاق ضد الحضارة العربية والشرق
لقد مثّلت نشأة إسرائيل مشروعاً استراتيجياً للغرب بل وخط دفاعٍ أمامي لحماية أوروبا لتحقيق أهداف استعمارية في المنطقة العربية وما أبعد أيضاً في مناطق البلقان وأفريقيا وباليد الطولى بأمريكا اللاتينية. وقد ظهر ذلك بوضوح سابقاً، ومن خلال ما ينفذ منذ عقود وبالأحداث الأخيرة بغزة وحتى بالضفة بما فيها القدس وما يجري بحق لبنان اليوم، حيث تتبع إسرائيل سياسة تهدف إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهويد، بدعم وشراكة أميركية كاملة. هذه السياسة ليست مجرد تصعيد عسكري، بل هي استكمال لدور إسرائيل كأداة لضرب مقومات الحضارة العربية ولمنع نشؤ فكر قومي عربي مقاوم لمشاريعها أو أي مشروع آخر مناهض، سواء عبر تهجير الفلسطينيين أو تدمير بنيتهم التحتية وهو ما يجري اليوم بحق المقاومة في لبنان أيضاً كما يمكن أن يجري بحق شعوب أخرى عربية وفق ما يجري من الحديث عن خطط التوسع من خلال رؤية إسرائيل الكبرى والتي هي إحدى مكونات الشرق الأوسط الجديد بالمفهوم الأمريكي المتوافق مع الرؤية المسيانية والمسيحية الصهيونية والفوقية القومية البيضاء بالولايات المتحدة والآخذة بالانتشار في بعض مفاصل أوروبية من خلال اليمين الشعبوي المتطرف فيها.
مؤخراً الإدارة الأمريكية النيوليبرالية المتوحشة بقيادة جو بايدن، انحازت بشكل مطلق إلى تصعيد حربها بالوكالة في أوكرانيا، وإلى إسرائيل سنداً لمحددات الشراكة الاستراتيجية معها، متجاهلة كل الدعوات الدولية لوقف العدوان الإبادي. وهي ما زالت تعمل على تعزيز الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، مما يرسّخ دورها كمشروع استيطاني يهدف إلى تقويض أي نهضة عربية وإلى تصفية الحقوق السياسية لشعبنا الفلسطيني أولاً، وهو أمر سيتصاعد أكثر مع قدوم ترامب الديني القومي الأبيض إلى البيت الأبيض بعد قرابة الشهرين.
أوكرانيا، أداة لمحاصرة الحضارة الشرقية
في المقابل، تُستخدم أوكرانيا وتايوان كنقطة انطلاق لمحاصرة واستنزاف روسيا والصين، القوتين الرئيستين في الحضارة الشرقية وهي مسألة تعتمد على نظرية مستشار الأمن القومي الأمريكي في نهاية السبعينيات ديبيغيو بريجنسكي حول المكانة الإستراتيجية القصوى لمركز أوراسيا للسيطرة على أوروبا ومنها على العالم، وهو بالمناسبة قد حذر في آخر أيام حياته عام 2016 من اقتراب المراحل الأخيرة للهيمنة الأمريكية على العالم نتيجة أخطاء فادحة في مسيرة سياساتها الخارجية. فمنذ اندلاع الحرب بالوكالة بل والانقلاب في أوكرانيا الذي دعمته المخابرات المركزية الأمريكية عام 2014 وعودة نشوء القوى النازية هنالك، سعت الولايات المتحدة إلى البناء على ذلك من خلال شق الكنيسة الأرثوذكسية هنالك وتعزيز تلك القوى لاستنزاف روسيا عسكرياً واقتصادياً، مع تعزيز دور حلف الناتو في وجهها ووجه الصين من جهة أخرى. الهدف الاستراتيجي الأميركي واضح وهو منع نشؤ أي نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يعارض الهيمنة الغربية.
التشابه بين القضيتين الفلسطينية والأوكرانية يكمن في النهج الغربي القائم على استغلال الحروب والصراعات وتصاعد الفكر القومي الفاشي اليميني لفرض رؤيته. فالولايات المتحدة تستخدم إسرائيل وأوكرانيا كخطوط مواجهة لإضعاف الحضارة العربية بمكوناتها الإسلامية والمسيحية المشرقية والحضارة الشرقية عموماً بمكوناتها المتعددة، وهو ما يُظهر تلاقي المصالح الغربية ضد أي مشروع ينافسها حضارياً أو سياسياً واقتصادياً بل واجتماعياً.
مخاطر التصعيد وتحولات النظام الدولي
إن استمرار هذه السياسات يهدد بِجر العالم اليوم نحو صراعات أكبر، قد تصل إلى حرب عالمية ثالثة أو نزاعات تستخدم فيها الأسلحة النووية المحدودة، وهذا التهديد هو ما دفع بوتين لإعلان العقيدة الروسية الجديدة بالخصوص بعد سماح الغرب لأوكرانيا باستخدام الصواريخ المتطورة ضد أهداف في عمق روسيا، وإلى استخدام روسيا لصاروخ باليستي حديث قبل أيام ما سيغير من الاستراتيجيات والخطط الغربية بالكامل، بسبب قدرته على الوصول لأي هدف في أوكرانيا وأوروبا كلها بل والقارة الأمريكية أيضاً دون أن يتمكن أحد من اعتراضه.
من جهة أخرى فإن تصعيد الجرائم في غزة وإعلان نوايا ضم أراضي الضفة الغربية الفلسطينية إلى إسرائيل، وتوسيع الحرب العدوانية ضد إيران ولبنان وضرب اليمن، يُنذر بعواقب وخيمة على المنطقة بأسرها. كما أن الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل يزيد من عزلة واشنطن ويضعف مصداقيتها في العالم خاصة اليوم بعد التصاعد الكبير لحجم التضامن مع شعبنا الفلسطيني خاصة بعد الانكشاف الواضح من خلال الإعلام السريع اليومي لطبيعة إسرائيل للبعض المتردد بالغرب وصدور تصريحات جريئة من بعض المسؤولين الأوروبيين مثل جوزيف بوريل كما وممثلي التيار التقدمي اليساري بالولايات المتحدة وقرارات المقاطعة وحظر الأسلحة، والآن بعد صدور الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدولية بخصوص الاحتلال وأوامر الاعتقال لنتنياهو وغالانت باعتبارهم مجرمي حرب من المحكمة الجنائية الدولية واستعداد العديد من الدول تنفيذ تلك المذكرات، رغم معارضة أمريكيا وإسرائيل لذلك واتهام هذه المؤسسات الأممية بمعاداة السامية كما جرت العادة بحق كل من يختلف مع سياساتهم الإجرامية، علماً بأن الصهيونية هي منهج عقائدي معادي للسامية أساساً كما وصفها لينين مؤسس الإتحاد السوفيتي في حينه، الأمر الذي كرر مضمونه بوتين الذي شرع قوانين تحد من حركة منظماتهم والوكالة اليهودية بروسيا بالفترة الأخيرة.
على الجانب الآخر، تُظهر روسيا والصين مزيداً من التنسيق لمواجهة السياسات الأميركية. هذا التقارب يُبرز معالم نظام عالمي جديد يتحدى التفرد الأميركي، ما سيعيد رسم الخريطة السياسية والاقتصادية الدولية.
الحاجة إلى استراتيجية عربية موحّدة
في ظل هذا التصعيد الأرعن، تبرز أهمية صياغة استراتيجية عربية مقاومة موحدة بمبادرة فلسطينية تضع أسس لمشروع قومي عربي معاصر بالشراكة مع دول إسلامية بالمنطقة وتحديداً تركيا وإيران رغم الاختلاف مع كليهما حول مشاريعهم الخاصة، إلا أن الوصول إلى قواسم مشتركة معهم سيساهم في مواجهة تحديات المشروع الصهيوني العالمي في غياب مشروعنا العربي حتى اللحظة. على الدول العربية أن تدرك أن الصراع مع إسرائيل ليس مجرد نزاع حدودي، بل هو معركة وجودية تتطلب توحيد الجهود لمواجهة المشروع الصهيوني الذي ينفذه الغرب الاستعماري بما فيه دولة الاحتلال والابرىتهايد "إسرائيل"، كما وعياً وبرنامجاً أوضح وأكثر جرأة للتصدي لمخاطره الجارية والقادمة خاصة وأن إسرائيل اليوم ترتفع كلفة احتلالها ومشاريع توسعها بما تتكبده من خسائر بشرية واقتصادية ونفسية بل وعسكرية مقابل ما تقوم به من إجرام، الأمر الذي سينعكس على استقرار الأوضاع الداخلية بإسرائيل نفسها خلال وقت قريب. كما يجب تعزيز الشراكات مع قوى الشرق كروسيا والصين وحلفائهم بالتكتلات الناشئة وكافة أصدقاء شعبنا من الدول المختلفة بآسيا، أفريقيا وأمريكيا اللاتينية وعدد من دول الاتحاد الأوروبي بل وكل القوى الشعبية والتقدمية فيها، لضمان التوازن في النظام الدولي الجديد وضمان أن يكون أكثر عدالة واعتباراً لقضايا الشعوب وحقوقها وسلامة حضاراتها الإنسانية.