أكثر من أيّ وقت، يبدو مطلوباً “إسناد لبنان” بدل “إسناد غزّة”. لا يعني ذلك تجاهل المأساة التي يشهدها القطاع الذي عملت إسرائيل على إزالته من الوجود وتهجير معظم القاطنين فيه، بمقدار ما يعني وجود حاجة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان. يحتاج لبنان إلى إعادة الحياة إليه، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهوريّة… في حال كان ذلك ممكناً.
بغضّ النظر عمّا إذا كان “الحزب” توصّل إلى اتّفاق حقيقي مع إسرائيل في شأن وقف النار أم لم يتوصّل إلى مثل هذا الاتّفاق، سيظلّ السؤال الذي سيفرض نفسه: ما العمل بسلاح “الحزب” الذي أخذ لبنان إلى حرب عبثيّة؟
كان لبنان في غنى عن هذه الحرب، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار ما لحق بالبلد من خسائر من جهة، ووجود نحو مليون ونصف مليون نازح، معظمهم من أبناء الطائفة الشيعية التي غيّرت “الجمهوريّة الإسلامية” في إيران طبيعتها من جهة أخرى.
من “إسناد غزّة” إلى “إسناد لبنان”، تلك تبدو النقلة النوعيّة التي يُفترض بـ”الحزب” القيام بها في ضوء ما حلّ بالبلد وفي ضوء جريمة ربط مصيره بمصير غزّة في اليوم التالي لـ”طوفان الأقصى”. لكنّ مثل هذه النقلة لن تكون ذات فائدة تذكر في حال بقي سلاح “الحزب”، وهو سلاح ميليشياوي ومذهبي، في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة.
بكلام أوضح، لا فائدة من بقاء هذا السلاح الذي ثبت بالملموس أنّه لم يحمِ ولم يبنِ والذي وُظّف في خدمة الأجندة الإيرانيّة لا أكثر. ليس معروفاً في الوقت الحاضر، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار الضربات التي تلقّاها “الحزب”، ومن خلفه إيران، إذا كان وقف النار خدمة لإسرائيل أم خدمة للبنان؟
لا قيامة للبنان من دون خروج سلاح “الحزب”، أي السلاح الإيراني، من المعادلة السياسيّة اللبنانية. لا يفيد لبنان في شيء التوصّل إلى وقف النار في حال لم يكن ذلك في إطار أوسع. إنّه إطار إحياء ثقافة الحياة في لبنان، وهي ثقافة عملت إيران على محوها، بل إلى إزالتها من الوجود.
فشل سلاح “الحزب” الذي اغتال رفيق الحريري ورفاقه وهذا العدد الكبير من اللبنانيين الشرفاء، من سمير قصير وجورج حاوي ووليد عيدو وأنطوان غانم وجبران تويني وبيار أمين الجميّل ووسام الحسن ووسام عيد وفرنسوا الحاج…. إلى محمّد شطح ولقمان سليم، في أن يكون في خدمة لبنان. تكفي مشاهد عشرات القرى المدمّرة في الجنوب والبقاع وما حلّ بالضاحية للتأكّد من ذلك.
لا يمكن أن يكون وقف النار حدثاً معزولاً عمّا سيليه. من هنا، يبدو مفيداً طرح أسئلة ما بعد وقف النار. في مقدَّم هذه الأسئلة، ما العمل بسلاح “الحزب” الذي يفُترض سحبه إلى ما وراء الليطاني؟ يخشى، في ضوء ما ورد في الخطاب الأخير لنعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” عن استعدادٍ للعمل “تحت سقف الطائف”، من ارتداد السلاح الإيراني في اتّجاه الداخل اللبناني على غرار ما حدث بعد حرب صيف عام 2006 وصدور القرار 1701 الذي تحوّل تطبيقه فجأة إلى مطلب وطني!
لا شكّ أنّ معطيات المرحلة الراهنة مختلفة عن معطيات ما بعد حرب صيف 2006، خصوصاً أنّ إسرائيل لم تعد في وارد إيجاد تفاهمات مع إيران تحدّد قواعد الاشتباك بينها وبين “الحزب”، وهي قواعد لم يتوقّف الراحل حسن نصرالله عن التذكير بها في الشهور التي سبقت اغتياله. أكثر من ذلك، لن يكون ممكناً تجاهل ثلاثة أمور أساسية:
1- وقف النار سيعني وجود آليّة، تشرف عليها الولايات المتحدة، أي “الشيطان الأكبر”، شخصيّاً، وتشارك فيها فرنسا، لتنفيذ القرار 1701 الذي يؤكّد ضرورة قيام منطقة عمليّات خالية من سلاح “الحزب”.
2- لبنان بات محاصراً ولن يعود من السهل حصول “الحزب” على الأسلحة التي يحتاج إليها عبر الأراضي السورية… أو من مطار رفيق الحريري والمرافئ اللبنانية المختلفة.
3- (أمّا الأمر الثالث فيتعلّق) الموارد المالية للحزب التي استهدفتها إسرائيل والتي هي موضع اهتمام أميركي وأوروبي أيضاً. في النهاية، يترتّب على “الحزب” الذي يمتلك موارد مالية خاصّة به، إضافة إلى ما يصل إليه من إيران، دفع ما يتجاوز سبعين ألف راتب شهري للمرتبطين به مباشرة أو بطريقة غير مباشرة. من أين سيأتي “الحزب”، الذي جعل “القرض الحسن” يحلّ مكان النظام المصرفي اللبناني، بالمال الذي يسمح له بالإيفاء بالتزامه تجاه بيئته؟
أسئلة كثيرة تبرز في مرحلة ما بعد وقف النار، لكنّ كلّ هذه الأسئلة تبقى مرتبطة بمصير سلاح “الحزب” الذي هو بإمرة “الجمهوريّة الإسلاميّة”. بين هذه الأسئلة: من سيعيد إعمار القرى التي دمّرها الوحش الإسرائيلي؟ ما لا بدّ من التنبّه له أن لا وجود لرغبة عربيّة بذلك من دون توافر شروط معيّنة في مقدّمها عدم العودة إلى ما قبل حرب “إسناد غزّة”.
الواضح أنّ وقف النار سيُدخل لبنان مرحلة جديدة. كم مدّة هذه المرحلة جديدة؟ وكم يمكن أن تساهم في تحقيق الانتقال من حرب “إسناد غزّة” إلى معركة “إسناد لبنان”؟ سيتوقّف الكثير على مصير سلاح “الحزب” من جهة، والوظيفة المستقبلية التي ستحدّدها “الجمهوريّة الإسلاميّة” لهذا “الحزب” الذي صنعته، من جهة أخرى.