تعزيز الفوضى واستدامة الاحتلال

مشروع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية في الشرق الأوسط

مسلحون من المعارضة السورية في مدينة حلب

 

 

 

يستمر اتجاه الأنظار إلى الشرق الأوسط، حيث تتشابك الأحداث بشكل يعكس مشروعا طويل الأمد يهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة خاصة بما يجري اليوم في ادلب وحلب، مع تصاعد المحارق في غزة وبعد ما جرى بحق لبنان، بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا المشروع، الذي يرتكز على استدامة الفوضى وزعزعة استقرار الدول الوطنية وتصفية قضيتنا الوطنية، يكتسب زخماً جديداً في ظل التطورات المتسارعة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، مع ما تحمله من تهديدات مباشرة لدول أخرى مثل الأردن.

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تصعيدٍ عابر أو مجموعة من الأحداث المنفصلة، بل هو امتداد لرؤية استراتيجية أمريكية إسرائيلية متشابكة تسعى إلى خلق شرق أوسط جديد بالنسخة الجديدة منه التي أعلنها نتنياهو، يعتمد على تفتيت الدول وتحويلها إلى كيانات هشة وغير قادرة على مقاومة الهيمنة. هذه الرؤية ليست وليدة اللحظة، بل ترسخت مع إعلان الولايات المتحدة وإسرائيل عن مشاريع سابقة مثل ما سمي بالربيع العربي، وما أعلنته قبل ذلك بعقدين كونداليزا رايس بخصوص الشرق الأوسط الجديد والفوضى المنظمة ومن ثم "صفقة القرن" ولاحقاً الناتو الشرق أوسطي واخيراً وليس آخراً على ما يبدو العدوان بحق لبنان وما يدور من جرائم بفلسطين. كل تلك المشاريع التي هدفت وما زالت إلى تصفية قضيتنا الوطنية الفلسطينية بشكل يخدم الهيمنة الإسرائيلية والمشروع الصهيوني، والتطبيع مع الدول العربية على حساب جوهر قضيتنا، الذي يُعد خطوة أساسية لإعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي.

الإبادة الجماعية في غزة، أداة لتحقيق الهيمنة

في غزة، ما زالت تتجلى ملامح هذه الرؤية بأبشع صورها. عمليات الإبادة الجماعية والتدمير الشامل للبنية التحتية ليست مجرد ردود فعل عسكرية على ما جرى بالسابع من أكتوبر قبل عام، بل تعكس استراتيجية مدروسة تهدف إلى استنزاف واجهاض المقاومة الفلسطينية وخلق واقع جديد يُحوّل القطاع إلى منطقة معزولة وغير قابلة للحياة.

تسعى إسرائيل من خلال عدوانها إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية. فمن جهة، تهدف إلى استدامة حالة الصراع الداخلي الفلسطيني، ومن جهة أخرى، تسعى إلى إعادة الاحتلال المباشر والاستيطان أو فرض سيطرة مشددة تُقصي أي وجود مقاوم في غزة وتعمل على تقسيمه وعزله. هذا العدوان لا يمكن فصله عن رغبة إسرائيل في استخدام القطاع كورقة ضغط لفرض رؤيتها في المنطقة، سواء من خلال محاولات تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي أو تحويل سكان غزة إلى لاجئين يدفعون باتجاه سيناء أو ما يسمى إسرائيلياً "الوطن البديل" في الأردن.

 الفوضى الموجهة في سوريا ولبنان، خدمة لأهداف إسرائيلية أمريكية

في سوريا ولبنان، تظهر بوضوح معالم الفوضى الموجهة التي تعمل الولايات المتحدة وإسرائيل على إشعالها ودعمها. فعودة دعم الجماعات المسلحة التكفيرية والإرهابية في إدلب وحلب وشمال سوريا الآن والاعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية على أراضيها يهدف إلى قطع خطوط الإمداد الإيرانية لسوريا ولبنان، وإبقاء الدولة السورية في حالة ضعف دائم، مما يمنع أي عودة لاستقرارها أو استعادة سيادتها الكاملة على أراضيها أو دورها المفترض بالمنطقة بعد أن عاد النظام العربي الرسمي إليها واستعادت مكانتها بالجامعة العربية.

أما في لبنان، فإن العدوان الإسرائيلي الأخير عكس محاولة لتقويض المقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله، الذي يُعد أحد أبرز التحديات الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة. إسرائيل تدرك أن أي استقرار في لبنان قد يعزز من موقف المقاومة ووحدة الموقف اللبناني الوطني، لذلك تسعى لإبقاء البلاد في حالة من التوتر السياسي والاقتصادي وإثارة البلبلة الداخلية بين الأطراف السياسية واللعب على الوتر الطائفي بعد فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة وتعرضها لخسائر بشرية وعسكرية واقتصادية فادحة.

الأردن تحت التهديد، الهدف القادم للفوضى

مع تصاعد الفوضى في المنطقة، يبرز الأردن كهدف محتمل في المشروع الأمريكي الإسرائيلي. موقع الأردن الشقيق الجغرافي ودوره الاستراتيجي في القضية الفلسطينية ودعمها يجعلان منه محوراً حساساً في أي خطة لإعادة تشكيل المنطقة.

الضغوط الاقتصادية والسياسية التي يتعرض لها الأردن إضافة إلى محاولات إثارة جماعات تكفيرية لتهديد الأمن الداخلي ليست بمعزل عن هذا المشروع. فالولايات المتحدة وإسرائيل تدركان أن زعزعة استقرار الأردن قد تخدم أهدافاً متعددة، من بينها تعزيز الضغط علينا نحن الفلسطينيين، ومحاولات دفعنا نحو خيارات سياسية تخدم رؤية إسرائيلية صهيونية ودينية لما يُعرف بـ"الوطن البديل"، خاصة بعدما جرى الحديث عنه مؤخراً حول الدولة الفلسطينية في شمال شرق الأردن وجزء من الأراضي العراقية من جانب غلاة الصهيونية الدينية.

 ترمب والرؤية الأمريكية الإسرائيلية

في هذا السياق، يبرز التساؤل حول دور الإدارات الأمريكية المختلفة في تعزيز هذه الرؤية. إدارة ترمب في فترة رئاسته السابقة على وجه الخصوص، أظهرت انحيازاً واضحاً لإسرائيل وتكريساً متميزاً لتعزيز الشراكة الإستراتيجية، وسعت إلى تسريع تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والضغط من أجل تطبيع العلاقات مع الدول العربية، وتنفيذ "صفقة القرن"، حيث قدمت إدارة ترامب دعماً غير مسبوق لتحقيق أهداف إسرائيل في المنطقة.

والآن فمن المرجح أن يواصل ترامب هذه السياسات من خلال صفقة القرن 2 والدفع غير المسبوق لتنفيذ التطبيع السعودي الإسرائيلي، ولكن بشكل أكثر عدوانية كما أعتقد. ترامب يعتقد أن تعزيز الفوضى ودعم إسرائيل بشكل مطلق هما السبيل لضمان الهيمنة الأمريكية بمنطقتنا في مواجهة النفوذ الصيني والروسي المتصاعد واحتواء الدور الإيراني في غياب مشروع عربي موحد.

وإسرائيل من جانبها، تستغل هذه الفوضى لتحقيق مكاسب استراتيجية بعيدة المدى. فهي تسعى إلى تحويل مناطق إلى قواعد دائمة لنفوذها، كما هو الحال في كردستان العراق وفي أذربيجان، حيث تعمل على بناء تحالفات جديدة تُعزز وجودها الإقليمي.

هذه الاستراتيجية تعتمد على تحويل دول المنطقة إلى كيانات ضعيفة ومنقسمة، مما يسمح لإسرائيل بتثبيت هيمنتها وتوسيع نفوذها دون مواجهة تهديدات كبيرة.

لكن هذه الاستراتيجية تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، ليس فقط على استقرار المنطقة، بل على السلم والأمن الدوليين. فالفوضى الممنهجة قد تؤدي إلى تصاعد الصراعات وتحولها إلى حروب شاملة يصعب احتوائها خاصة مع ما يجري من حرب بالوكالة ضد روسيا من خلال أوكرانيا.

لذلك، تتطلب المرحلة رؤية إقليمية موحدة وإرادة سياسية فلسطينية وعربية قوية لمواجهة هذا المشروع لفرض وقف العدوان على غزة كجزء من الوطن الفلسطيني الواحد. وعلى دول المنطقة أن تتبنى استراتيجية مضادة تستند إلى مقاومة هذه المشاريع وتعزيز التحالفات الإقليمية العربية والإسلامية بل ومع الدول الصديقة وبالمقدمة منها الصين وروسيا، ودعم الدول العربية التي تستهدفها هذه الحروب والفوضى وما سيعمل عليه الاحتلال من مشروع الضم لأغلب مساحة الضفة الغربية. فقط من خلال هذا النهج يمكن كسر الحلقة المفرغة للفوضى وإفشال المخططات الرامية إلى تغيير الخرائط السياسية والجغرافية في الشرق الأوسط.

 

 

 

Loading...