ليس صدفة أن تأتي الأحداث التي تجري في شمال غربي سورية بعد التوصل إلى تسوية بين إسرائيل ولبنان. وها هو كابوس النظام السوري يتحقق؛ فقبل أيام اقتحمت قوات المعارضة السورية مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة في سورية بعد دمشق، ووصلت إلى قلب المدينة. فوجئ الجيش السوري، بينما كانت الردات الروسية متأخرة وغير كافية، واختفت الميليشيات الشيعية عن الأنظار.
نتيجةً للحرب مع إسرائيل اضطر "حزب الله" إلى سحب قواته إلى لبنان، وإهمال الساحة السورية. وقد أدى "حزب الله"، منذ الحرب الأهلية في سورية، دوراً مهماً في القتال البرّي؛ فقبل عقد من الزمن شهدت الحرب الأهلية انشقاقات جماعية في صفوف الجيش السوري، إذ انضم العديد من الجنود السنة إلى صفوف المعارضة، وقامت الميليشيات الشيعية التي أرسلتها إيران إلى سورية بسد هذا الفراغ، وساهمت في بقاء النظام.
تراجع الدعم الروسي
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، انشغل الجيش الروسي بالساحة الأوروبية، وقلص اهتمامه بسورية، ونتيجة لذلك انخفضت مشاركة القاعدتين العسكريتين الروسيتين (القاعدة البحرية في طرطوس، وقاعدة القوات الجوية في اللاذقية) في الحرب شمال سورية ضد المعارضة.
إن الافتراض الخاطئ الذي تبنّاه النظام السوري، الذي يقضي بأن الحرب قد انتهت بانتصاره، أدى إلى تنفيذ إصلاحات في الجيش، تمثلت في تحويله إلى جيش من المتطوعين وإلغاء الخدمة الإلزامية. فإذا ما أضفنا إلى ذلك انخفاض الحوافز للانضمام إلى الجيش وضعف رواتب جنوده، نجد أنه عشية هجوم المعارضة في اتجاه حلب، كان هناك تراجُع كبير في عدد الجنود في صفوف الجيش السوري.
إهمال إدلب – الافتراض الخاطئ
هناك افتراض آخر خاطئ أدى إلى الأزمة الحالية، ويرتبط هذا الافتراض باعتقاد أن محافظة إدلب، المعقل الأخير للمعارضة منذ الحرب الأهلية، لم تعد تشكّل تهديداً للنظام. لقد أنهى الرئيس بشار الأسد الحرب سنة 2017 وهو يسيطر على نحو 70% من أراضي البلد، وفي المقابل، أسس الأكراد في الشمال منطقة حكم ذاتي على 20% من مساحة سورية، بينما سيطرت تركيا على آلاف الكيلومترات، وأقامت منطقة عازلة بحجة مواجهة "الإرهاب الكردي"، وهكذا بقيت محافظة إدلب تحت سيطرة المعارضة، والتي تتألف معظمها من تنظيمات سلفية جهادية. وقد اكتفى جيش الأسد بحرب استنزاف محدودة عبر قصف إدلب، بينما امتنعت الميليشيات الإيرانية من الحسم العسكري، ربما لتبرير استمرار وجودها المكثف في سورية. كان الافتراض السائد هو أن المعارضة في إدلب ضعيفة ومنقسمة وغير قادرة على الانتقال من وضعية الدفاع إلى الهجوم.
وتحد محافظة إدلب تركيا، التي تشكل شريان حياة المعارضة، ويبدو أن الهجوم الحالي تم الإعداد له جيداً مسبقاً، على الأرجح في أثناء متابعة تركيا للتطورات في لبنان. ويشكّل هذا الهجوم انتهاكاً صارخاً لاتفاقات الآستانة 2020 بين تركيا وروسيا. في بداية آب، أوضح الرئيس بشار الأسد في مقابلة تلفزيونية أن تركيا هي التي تصنع الإرهاب في سورية، فأنقرة، منذ ما يقارب العقد، تقدم دعمها إلى المعارضة في إدلب، بتمويلها وتسليحها.
وتسعى تركيا، من جهتها، لتعزيز هيمنتها على الشمال السوري، وقد استغلت الحرب الأهلية قبل نحو عقد للاستيلاء على عشرات الكيلومترات من المناطق؛ كالحسكة، وعفرين، وشمال حلب. ومن الجدير بالذكر أن هذه هي تركيا نفسها التي سمحت قبل عقد للمتطوعين من تنظيمَي "داعش" و"جبهة النصرة" بالعبور من أراضيها إلى سورية. لقد رفض النظام السوري حتى الآن عقد محادثات مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ما لم يسحب الأخير قواته من سورية.
هوية المتمردين والخطر
تشكل هوية المتمردين مصدر قلق لجميع الأطراف المنخرطة في الحرب السورية؛ فمن مجموعات المعارضة التي توحدت استعداداً للهجوم عبر غرفة عمليات مشتركة، تبرز "هيئة تحرير الشام" (مجلس تحرير سورية) التي تُعد امتداداً جديداً لـ"جبهة النصرة"، وهي فرع من تنظيم "القاعدة" في سورية، ولا يزال زعيمها أبو محمد الجولاني أحد كبار قادة "القاعدة".
ويطلق المقاتلون على أنفسهم اسم المجاهدين، ومعظمهم يظهرون بذقون ويرتدون عصبات على جباههم، ويرفعون رايات سوداء مكتوباً عليها عبارة الشهادة. هذه هي الصورة النمطية للتيار السلفي الجهادي الذي كان يميز "داعش" و"جبهة النصرة" قبل عقد. وهكذا، يمكننا الافتراض أن أول ضحايا التطورات في سورية سيكونون من الأقليات.
سيكون العلويون، الأقلية الحاكمة التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد وكبار قادة الجيش، أول الضحايا، ثم يليهم في دائرة الخطر المسيحيون، ثم الشيعة، ثم الإسماعيليون، وبقية الأقليات. وفي المقابل، سارع الأكراد، الذين يديرون منطقة حكم ذاتي في الشمال، إلى السيطرة على الضواحي الكردية شرق مدينة حلب لمنْع سقوطها في أيدي الإسلاميين. أمّا القريتان الشيعيتان الوحيدتان في المنطقة، وهما كفر نُبُل والزهراء، اللتان سيطرت عليهما المعارضة، فتواجهان الآن خطراً كبيراً.
إمكانية انفصال الجنوب السوري
تراجعت سيطرة النظام في جنوب سورية كثيراً في السنوات الأخيرة، وهو ما يفتح المجال أمام بعض المجموعات لاستغلال الوضع والانفصال عن سلطة النظام. وبدأ الدروز في محافظة السويداء، الذين كانوا موالين للنظام حتى الحرب الأهلية، في السنوات الأخيرة بتنظيم تظاهرات ضده، كتعبير عن رفض الشباب التجند في الجيش، وإهمال النظام لمناطقهم. وعلى الرغم من غضب الدروز من النظام، فإنهم الآن أكثر قلقاً من صعود المعارضة الإسلامية التي ستمثل تهديداً لهم بلا شك.
أمّا في محافظة درعا ذات الأغلبية السنية، والقريبة من الحدود مع إسرائيل والأردن، فإن العديد من المسؤولين المحليين ليسوا موالين للنظام في دمشق؛ بعضهم كان جزءاً من المعارضة خلال الحرب الأهلية، وتحولوا لاحقاً إلى مرتزقة برعاية روسية. في الوقت الحالي ربما يدير هؤلاء ظهورهم للنظام إذا شعروا بضعفه، وينضمون إلى المعارضة.
من الزاوية الإسرائيلية
ستستفيد إسرائيل بلا شك من ضعف الوجود الإيراني في سورية، وهو ما سيؤدي إلى تقليص إمدادات الأسلحة الإيرانية لـ"حزب الله" في لبنان، كما أن الولايات المتحدة ستستفيد إذا ما اضطرت روسيا إلى مغادرة سورية. ومع ذلك، يجب علينا أن نأخذ في اعتباراتنا بدائل الوضع القائم.
من المهم الإشارة إلى أن الإسلاميين، الذين يقودون المعارضة، يتبنّون أيديولوجيا دولة شريعة سنية متشددة، ويمكن أن يؤدي انتصارهم، كما حدث قبل عقد، إلى تدفق الجهاديين من جميع أنحاء العالم إلى سورية. فهل نحن راغبون في ظهور نسخة جديدة من "الدولة الإسلامية" على حدودنا؟
إن النظام السوري الحالي هو عدو قديم ومألوف، وقد حافظ على هدوء جبهة الجولان على مدار خمسين عاماً.
خريطة سورية جديدة
تحاول المعارضة حسم الموقف عبر حرب خاطفة، إذ تمكنت من السيطرة على محافظتين، ومطارات، ومحاور استراتيجية رئيسية، وهي تتقدم الآن جنوباً في اتجاه مدينة حماة. لقد تأخر صد تقدُم قوات المعارضة في شمال سورية، وهذا يعود إلى المباغتة التي أصابت الجيش السوري. ولكي يُتاح الوقت لقوات الأسد لإعادة تنظيم صفوفها، من المتوقع أن تركز الطائرات الروسية في الأيام المقبلة ضرباتها الجوية على كل من حلب وإدلب، وهو ما سيؤدي بلا شك إلى دمار واسع، وسقوط العديد من القتلى، وموجات نزوح جديدة.
وتنقسم سورية حالياً إلى 3 مناطق سيطرة رئيسية: الحكم الذاتي الكردي في الشمال الشرقي تحت حماية محدودة من الولايات المتحدة، ومناطق المعارضة تحت رعاية تركيا في الشمال الغربي (إدلب - حلب، وربما قريباً حماة)، ومناطق سيطرة الأسد تحت رعاية روسيا في الجنوب والوسط (اللاذقية - حمص - حماة - دمشق).
ومن المتوقع أن تشهد الفترة القادمة موجة من الميليشيات الشيعية التي ستسعى للوصول إلى سورية من الحدود العراقية (دير الزور) لدعم بقاء النظام، وملء الفراغ الذي خلفه انسحاب "حزب الله". وهكذا، باختصار، بتنا أمام جولة ثانية من الحرب الأهلية السورية التي اندلعت قبل عقد. والسؤال المطروح هو: هل ستكون النتائج هذه المرة مختلفة مع ضعف المحور الإيراني؟
عن "معاريف"