مقالات مختارة

مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت: هل تكون بداية نهاية إفلات إسرائيل من العقاب؟ | فادي أبو بكر

 

 

 

أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم الخميس الموافق 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك التجويع الممنهج والاضطهاد ضد الفلسطينيين.

 يُمثّل هذا القرار تطوراً نوعياً في مسار العدالة الدولية، حيث يلقي الضوء على انتهاكات لطالما وثّقتها مؤسسات حقوق الإنسان وأغفلها المجتمع الدولي تحت وطأة الضغوط السياسية. ويعكس قرار المحكمة الجنائية الدولية تحولاً في المواقف الدولية تجاه إسرائيل، ويعزّز من عزلة إسرائيل الدولية ويثير تساؤلات حول شرعية سياساتها، حيث بدأت العديد من الدول والمنظمات الحقوقية في زيادة الضغوط على الاحتلال.

على الصعيد الإسرائيلي الداخلي، يواجه نتنياهو تحديات غير مسبوقة، حيث تعمّقت الانقسامات السياسية في إسرائيل إثر قرار المحكمة الجنائية الدولية، ولعلّ التحذيرات الصادرة عن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بشأن تفكك الدولة تعكس خطورة الوضع، خاصة مع تصاعد التوترات السياسية والاتهامات المتبادلة بالخيانة بين المسؤولين. ويمكن الجزم بأن الأزمة الداخلية قد تفاقمت بفعل سياسات نتنياهو التي يرى كثيرون أنها تكرس الانقسام وتضعف استقرار دولة الاحتلال.

يمثّل القرار خطوة رمزية تعزز الجهود الساعية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، إلا أن الطريق لتحقيق العدالة للفلسطينيين ما زال مليئاً بالعقبات، فالعدالة تتطلّب توسيع نطاق التحقيقات لتشمل جميع الجرائم المرتكبة منذ عام 2014، مع تقديم كافة المسؤولين عن هذه الجرائم إلى المحاكمة. ومن الضروري أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في دعم المحكمة الجنائية الدولية أمام أي ضغوط سياسية محتملة، وضمان تنفيذ قراراتها بما يعيد ثقة الشعوب في النظام الدولي القائم على القانون.

إن إصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت لهو اختبار حقيقي للمؤسسات الدولية وقدرتها على مواجهة الضغوط السياسية وتحقيق العدالة. ولن يهدّد صمت المجتمع الدولي تجاه الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة حقوق الفلسطينيين فحسب، بل سيطال النظام الدولي برمّته وسيقوّض أسسه، الذي يفترض أن تضمن المساءلة والمساواة. حيث أن تحقيق العدالة في هذه القضية يمثل فرصة لتصحيح مسار النظام الدولي، وإرسال رسالة واضحة مفادها بأن الإفلات من العقاب لم يعد مقبولاً في عصر يسعى لتحقيق العدالة والسلام للجميع.

في ظل هذا التطور، يبقى السؤال الأهم منوطاً بمدى جدية المجتمع الدولي في ترجمة هذا القرار إلى خطوات عملية على أرض الواقع. فتاريخياً، لطالما واجهت المحكمة الجنائية الدولية تحديات كبيرة في تنفيذ مذكرات توقيف بحق مسؤولين سياسيين وعسكريين في دول تحظى بدعم دولي قوي. وإسرائيل ليست استثناءً من هذه الديناميكية، حيث تستفيد من دعم دول كبرى مثل الولايات المتحدة التي غالباً ما تتّخذ مواقف مناهضة للمحكمة في قضايا تمس حلفاءها. وتؤكد تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بشأن إمكانية اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات ضد المحكمة، أن إسرائيل ستلجأ إلى حلفائها لحماية قادتها من المحاسبة.

ومع ذلك، لا يمكن التقليل من أهمية القرار من حيث تأثيره الرمزي والقانوني. فإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين يحمل رسالة واضحة مفادها أن الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين لن تمر دون محاسبة، وأن العدالة قد تتأخر لكنها لا تموت. كما يعزز القرار شعور الفلسطينيين أن حقوقهم وقضيتهم تجد أخيراً صدى على الساحة الدولية.

وقد يكون لهذا القرار انعكاسات مهمة داخل إسرائيل نفسها، حيث تزداد حالة الاستقطاب بين مؤيدي ومعارضي الحكومة الحالية. ولعلّ تصاعد الدعوات لرفض الخدمة العسكرية من قبل بعض الإسرائيليين يعكس أزمة الثقة في القيادة السياسية، وهو مؤشر على أن السياسة القائمة على القوة العسكرية والقمع لم تعد مقبولة حتى لدى قطاعات من المجتمع الإسرائيلي. وإذا ما استمرت هذه الضغوط الداخلية بالتزامن مع الضغوط الدولية، فقد تجد إسرائيل نفسها مضطرة لإعادة النظر في سياساتها تجاه الفلسطينيين.

يبقى من الضروري توحيد الجهود الدولية لضمان أن لا تكون هذه المذكرات خطوة رمزية فقط. فتحقيق العدالة يتطلب دعماً قوياً ومستمراً للمحكمة الجنائية الدولية، وتعاون الدول الأعضاء في تنفيذ قراراتها. كما أن على الدول العربية والإسلامية والمنظمات الحقوقية والدبلوماسية الفلسطينية تكثيف جهودها في المحافل الدولية لتأكيد أهمية محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، وربط هذا الملف بكافة القضايا ذات الصلة بالأوضاع في المنطقة.

وخلاصة القول، أن قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة نتنياهو وغالانت يُمثّل لحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ورغم التحديات التي تواجه تطبيق العدالة، إلا أن هذه الخطوة تحمل بارقة أمل بأن المحاسبة ممكنة، وأن العالم قد يبدأ في إدراك أن إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وتحقيق العدالة والحرية له واسترجاع حقوقه كاملة غير القابلة للتصرّف، يتطلّب أولاً كسر دائرة الإفلات من العقاب التي استفاد منها الاحتلال لعقود طويلة.

 

 

 

Loading...